إنَّ مما لا شك فيه أن المملكة العربية السعودية بلد مُهم عربياً وإسلامياً ودولياً، فالسعودية هي من أكبر الدول العربية وأغناها ولعلّ مما يعطيها قوة على المستوى العربي أنها تترأس فعلياً مجلس التعاون الخليجي المؤلف من ست دول بعضها هام على الصعيد الاقتصادي الدولي كالإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت، وأما إسلامياً فهي بلد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ولذا فهي تلعب دوراً مهماً على المستوى الإسلامي الدولي وبالذات من خلال رابطة العالم الإسلامي، وإذا أتينا إلى البعد الدولي فهي لاعب هام على صعيد السياسة الدولية وذلك نابع من حقيقة أنّها أكبر مصدر للنفط في العالم (ما يزيد على 10 مليون برميل في اليوم) ولذا فهي عضو مهم وأساسي في منظمة "أوبك" للدول المصدرة للنفط، وكذلك في منظمة "أوبيك+" حيث تُضاف روسيا إلى مجموعة أوبك، وفضلاً عن ذلك فإن السعودية هي عضو في مجموعة الدول العشرين الأغنى في العالم (G 20) (تشكل هذه المجموعة 20% من الاقتصاد العالمي، و66% من سكان العالم، و 75% من التجارة الدولية، و 80% من الاستثمارات العالمية).
لقد تحالفت السعودية تاريخياً مع الغرب منذ نشأتها رسمياً في عام 1932 (بريطانيا أولاً والولايات المتحدة لاحقاً)، ورغم أنها ما زالت متحالفة مع الغرب بشكل عام إلّا أنّ عدة انعطافات حدثت في السياسة السعودية خلال الفترة الأخيرة وهي تشي بنوع من التحوّل باتجاه "العالم المُتعدد الأقطاب" المؤلف أساساً من روسيا (القوة النووية الكبرى المكافئة للولايات المتحدة) والصين (ثاني اقتصاد في العالم)، ولعلّ أهم هذه الانعطافات:
أولاً: توثيق العلاقة مع الصين في مجالات الطاقة والاستثمارات والبنية التحتية، والأمن، والتقنية، والواقع أن الصين هي من أكبر شركاء السعودية التجاريين، كما تُعدّ السعودية أكبر مُصدّر للنفط الخام إلى الصين، وفضلاً عن ذلك فقد انضمت السعودية في الفترة الأخيرة إلى منظمة شنغهاي، (بصفة شريك للحوار)، ولا أدل على تنامي هذه العلاقة من تنظيم السعودية لقمة صينية سعودية، وأخرى، صينية خليجية، وثالثة صينية عربية (الأولى من نوعها) في الرياض أخيراً، ونجاح الصين في إبرام اتفاق بين السعودية وإيران كمتنافسين إقليميين مهمين.
ثانياً: تمتين العلاقة مع روسيا سياسياً، وثقافياً، واقتصادياً، وبالذات في مجال الطاقة حيث تتشارك السعودية وروسيا عضوية منظمة أوبك + (دول أوبك المصدرة للنفط + روسيا) وهما تؤثران بشكل كبير على سوق النفط العالمي، والواقع أن العلاقة المتنامية بين روسيا والسعودية لا تتوقف عندها (أي عند السعودية)، بل تمتد إلى دول مجلس التعاون الخليجي بأشكال مختلفة ذات طابع اقتصادي غالباً، ولعلّ الزيارات المتبادلة الكثيرة بين قيادتي السعودية وروسيا تدُل على رغبة الطرفين في تنمية هذه العلاقة ورغبتهما في بلورة عالم مُتعدد الأقطاب أكثر عدالة.
ثالثاً: انضمام السعودية رسمياً إلى مجموعة بريكس (BRICS) (روسيا، الصين، البرازيل، الهند، جنوب أفريقيا)، وهي المجموعة ذات الوزن الكبير (تشكل مساحة دول المجموعة ربع مساحة اليابسة، و 40% من سكان العالم، وما يزيد عن 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي). إن هذا الانضمام يشير بوضوح إلى رغبة السعودية في تنويع علاقاتها، والانخراط في أي تجمع يخدم مصالحها وبغض النظر عن تحالفاتها التاريخية التقليدية.
رابعاً: المفاوضات غير المباشرة التي تدور خلف الكواليس والتي تقودها الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل حيث يُقال إن السعودية تطالب الولايات المتحدة بتزويدها بطائرات الشبح (F 35) في إطار اتفاق أمني استراتيجي معها، كما تطالبها بالموافقة على تأسيس برنامج نووي سلمي على أراضيها، وذلك فضلاً عن تقديم تنازلات مهمة للفلسطينيين في إطار المبادرة العربية التي قدمتها السعودية في عام 2002 والتي تنص أساساً على قيام دولة فلسطينية على حدود 67 مقابل التطبيع الكامل مع إسرائيل. إنّ هذه المفاوضات تدل على أن السعودية وإن كانت ما زالت متحالفة مع الغرب وبالذات في المجال الأمني (79% من مشترياتها الدفاعية من الولايات المتحدة) إلّا أنها ترغب في إعادة النظر في هذه العلاقات وبما يجعلها أكثر توازناً وتحقيقاً لمصالحها الاستراتيجية.
وختاماً فإن من الواضح أن السعودية تدرك تحوّل العالم وإن تدريجياً وببطء من عالم القطب الواحد (حيث تتّسيد الولايات المتحدة) إلى عالم متعدد الأقطاب (روسيا، الصين، الهند، ...)، ولذا فهي تتحرك استراتيجياً هنا وهناك وبما يحقق أهدافها الكبرى، ولعلّ هذا التحرك لن يتبلور تماماً ونهائياً إلّا بعد أن يتشكل النظام الدولي الجديد ذو الأقطاب المتعددة، الأمر الذي يحتاج إلى وقت ليس بالقصير.