مدار الساعة- مع وجود إدارة جديدة ورئيس جديد، مختلفين تماماً عن أي من سابقيهم، قد يبدو من العبث أن نحاول استلهام أي إرشاداتٍ من الماضي. لكنَّ هناك درساً واحداً، عُمره يقترب من نصف قرن، يطرح ما قد يكون السؤال الأكثر جوهريةً حول رئاسة ترامب، سؤالاً قد يكون، حرفياً، مسألة حياة أو موت.
في بداية 1968، كانت حرب فيتنام قد تحوَّلَت إلى ورطة بالنسبة لأميركا. كان عدد الجنود الأميركيين الذين يحاربون هناك أكثر من 500 ألف، وكان 500 منهم يموتون كل أسبوع، وفق صحيفة thedailybeast.
وعمَّ الاعتراض، ليس فقط في الجامعات، ولكن أيضاً داخل الحزب الديمقراطي. وكان مُرشَّح السلام، يوجين مكارثي، عضو مجلس الشيوخ من ولاية مينيسوتا، يُشكِّل تحدياً أساسياً للرئيس ليندون جونسون.
وحين أدرك جونسون أنَّ الشكَّ يغمر وزير الدفاع، روبرت ماكنامارا، على نحو متزايد، استبدله بكلارك كليفورد، المحامي البارع، والعضو بجماعات الضغط السياسي (اللوبي)، الذي كان مستشاراً مهماً في ما يخص شؤون الحزب الديمقراطي عشرين عاماً، وكان كليفورد أيضاً محامياً عالي الأجر، يعمل لصالح الشركات ذات الاقتصاد المستقر. وبعد انتخابات عام 1960، قال الرئيس كينيدي عن مساعدة كليفورد: "كل ما طلبه مقابل مساعدته أن نُعلن عن شركته القانونية على ظهر العملات الورقية من فئة الدولار الواحد".
مهمة كليفورد الصعبة
كان كليفورد واحداً من المُقرَّبين المتشددين للرئيس جونسون حين زادت حدة الحرب، لكن بعد أيام من ترشيحه، زعزع هجوم "تيت" (وهي سلسلة هجمات في جنوب فيتنام، شنَّها جنود شمال فيتنام و"فيت كونغ"، الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام)، ثقة الولايات المتحدة في استبصارِ ضوءٍ في نهاية النفق المظلم. وحين طلب البنتاغون دعماً متكوناً من 206 ألف جندي، طلب جونسون من كليفورد أن يترأَّس فرقة عمليات لإجراء تحقيق دقيق لمعرفة متى وكيف سوف يُوزَّع الجنود، ونتج عن ذلك اكتشاف ملهم.
قال كليفورد بعد ذلك الحادث بسنوات "قضيتُ 3 أيام في دعم هيئة الأركان المشتركة، حيث جلسنا مع كل مُعدات الاتصال التي تتصل بكل مكان في العالم.
تحدثنا لأوقاتٍ طويلة. كم من الوقت يلزم لإتمام الأمر؟ لم يعرفوا. كم جندياً إضافياً سوف نحتاج؟ لم يعرفوا. هل سيكفي إرسال 206 ألف جندي إضافي؟ لم يعرفوا. هل من المحتمل أن يكون هناك المزيد؟ نعم، من المحتمل أن يكون هناك المزيد. لذا، حين انتهى الأمر، قلت: ما هي الخطة لتحقيق النصر في حرب فيتنام؟ حسناً، الخطة الوحيدة هي أن تُنهِك الهجمات المستمرة جنود شمال فيتنام حتى لا يقدروا على المزيد. هل ثمة إشارة على أننا وصلنا لتلك النقطة؟ كلا، ليس ما من إشارةٍ على ذلك".
ويضيف كليفورد: "ونتيجة لهذا الحديث، ولهذه المعلومات، قبل أن نُنهي الاختبار النهائي ونُرسل تقاريرنا إلى الرئيس جونسون، تحوَّلت إلى معارضٍ للحرب".
إقناع الرئيس بفشله في حرب فيتنام
كانت الخطوة التالية، والمفصلية، هي إقناع الرئيس بأنَّ منهجه في التصرُّف محكومٌ بالفشل. وجاءت نقطة التحول يوم 25 مارس/آذار، بعد أسبوعٍ واحدٍ فقط من دخول روبرت كينيدي سباق الانتخابات الرئاسية، وقبل أيامٍ من اعتزامِ الرئيس توجيه خطابٍ للأمَّة يشبه خطابات رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق، تشرشل، الحماسية الشهيرة، محاولاً أن يحشد البلد وراء الحرب.
وفي ذلك اليوم، جمع الرئيس جونسون مجموعة من المستشارين الكبار، من داخل إدارته وخارجها، وهُم رجالٌ قد أيَّدوا تصعيد الحرب تأييداً مستمراً. أُطلق على تلك المجموعة لقب "الرجال الحُكماء"، وكان منهم رموز مثل وزير الخارجية السابق، دين آتشيسون، وسفير أميركا في فيتنام سابقاً، ماكسويل تايلور، ومستشار الأمن القومي السابق، ماك جورج باندي.
توقَّف عن محاولة الفوز بالحرب
وقد صُدم الرئيس حين نصحته المجموعة بألا يُزيد قوات المشاة، وأن يوقِف معظم عمليات القصف في الشمال، وأن يجد أسلوباً بديلاً لإنهاء الحرب. ويقول كليفورد: "كانت هناك مجموعة تقول:سيادة الرئيس، توقَّف عن محاولة الفوز بالحرب، وابدأ بالتراجع، ولا ترسل أي رجال آخرين. نظنُّ أنَّ عليك الخروج. وكانت تلك حقيقة مُرَّة بالنسبة له".
لكنَّه تقبَّلها. وبعد أسبوع، في 31 مارس/آذار، وقف جونسون أمام الأمَّة وأعلن إيقاف القصف، واستعداده للتفاوض مع شمال فيتنام والجنود المتمردين في الجنوب. وأعلن أيضاً: "لا أؤمن أنني يجب أن أكرِّس لا ساعة ولا يوماً من وقتي لأي حملات حزبية شخصية، أو لأي واجبات غير الواجبات الرهيبة لهذا المنصب: رئاسة بلدكم. لذا، لن أطلب، ولن أقبل ترشيح حزبي لي لفترة رئاسية أخرى".
وتعرضت العلاقة بين جونسون وكليفورد إلى شرخٍ لم يلتئم. وفي نهاية عام 1968، كان جونسون يرفض نصائح كليفورد على نحو متزايد، وبدأ كليفورد يؤمن أنَّ جونسون فضِّل ريتشارد نيكسون، الرجل الذي احتقره كليفورد، على هيوبرت همفري، في الانتخابات التي أُجريت في خريف هذا العام. (تضررت سمعة كليفورد بعد ذلك بسنوات نتيجة تورطه في العمل مع بنك مرتبط بنشاط إجرامي).
أذعن جونسون حين أُخبر بأنَّ افتراضاته الراسخة قد أُثبت خطؤها
لكن في مارس/آذار عام 1968، حين كان قرار حاسم بشأن الحرب والسلام على المحك، أذعن جونسون حين أُخبر بأنَّ افتراضاته الراسخة قد أُثبت خطؤها، وغيَّر مساره.
ربما ما من سِمةٍ من السمات الشخصية لأي رئيس أكثر ضروريةً من استعداده للتخلي عن أعمق معتقداته حين تقتضي الحقائق ذلك. بالنسبة لجونسون، الذي لا ينافسه في خوفه الأساسي من الإذلال سوى دونالد ترامب، كان ذلك يعني أن يتخلى عن الوظيفة التي أرادها بشدة لعقودٍ من الزمان.
وبالنسبة لريتشارد نيكسون، كان الأمر يعني الاستماع لنصيحة القادة الجمهوريين حين غمرته فضيحة "ووترغيت" (وهي أكبر فضيحة سياسية في تاريخ أميركا، حين قرر نيكسون التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت)، بدلاً من أن يخاطر باندلاع كارثة دستورية بأن يرفض قرار المحكمة العليا بأن يُسلِّم أشرطة التسجيل التي تدينه.
وبالنسبة لرونالد ريغان، كان الأمر يعني الاعتراف بأنَّ إدارته قد قايضت أسلحة مقابل الرهائن المحتجزين في إيران. ويقول ريغان، في واحد من أكثر اعترافات الرؤساء صراحةً: "منذ عدة شهور، أخبرت الشعب الأميركي بأنني لم أقايض أسلحة مقابل الرهائن. ما زال قلبي وأفضل نواياي يخبرونني بأنَّ هذا حقيقي، لكنَّ الحقائق والأدلة تخبرني بأنه ليس كذلك".
بالنسبة لجورج بوش الابن
وبالنسبة لجورج بوش الابن، الذي بدأ غزو العراق عام 2003، على فرضية أنَّ ذلك سيكون ميلاداً للحرية في الشرق الأوسط، فقد كان الأمر يعني تغييراً جذرياً في سياسته، وتعيين وزير دفاع جديد، بعدما انهارت فرضيته بعد 3 سنوات.
من هذا التاريخ، يُطرح سؤالان:
الأول: هل هناك أي رمز سياسي، داخل الإدارة أو خارجها، مستعد لأن يجادل الرئيس ترامب ويخبره بأنه يسير في مسار عنيد وخطير؟
الثاني: لو كان هذا الشخص موجوداً، هل ثمة أي سبب يجعلنا نؤمن بأنَّ الرئيس سوف يستمع ويغيِّر مساره، بدلاً من تجاهل أي حُجة تقترح أنه كان على خطأ، مهما دعمتها الأدلة؟
من المستحيل أن نبالغ في تقدير حجم تأثير إجابتي هذين السؤالين.