يصنف علماء السياسة قوة الدول إلى ثلاثة أنواع: القوة الصلبة (Hard Power)، والقوة الناعمة (Soft Power)، والقوة الذكية (Intelligent Power)، وفي حين أن القوة الصلبة تعتمد على القوة الملموسة (العسكرية غالباً)، وفي حين تعني القوة الناعمة قوة الجذب والتأثير بدون استعمال القوة (Non-Coercive)، فإنّ القوة الذكية تعني استعمال النوعين السابقين معاً.
لقد قدم عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي (Joseph Nay) مفهوم القوة الناعمة على أنه "إمكانية التأثير على الآخرين لتحقيق ما نريد عن طريق الإقناع والاجتذاب"، وإذا طبقنا هذا المفهوم على الدولتين المتنافستين استراتيجياً: الولايات المتحدة والصين فإننا نلاحظ أن القوة الناعمة للولايات المتحدة تتمثل في ما يلي:
أولاً: التأثير الثقافي (Cultural Influence) وهو يتجلى في تأثير الأفلام الأمريكية، والموسيقى الأمريكية (ملك الروك ألفيس برسلي Elvis Presley، والفنان الشهير مايكل جاكسونMichael Jackson ) ، ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى أن مدينة السينما الأمريكية هوليوود (Hollywood) هي التي تتّسيد صناعة التسلية والإمتاع (Entertainment) على مستوى العالم، وبالطبع يتمثل هذا التأثير الثقافي أيضاً في شيوع اللغة الإنجليزية (لغة العلم، والتجارة والأعمال)، وفي المراكز الثقافية الأمريكية التي تتوافر في معظم عواصم العالم، وذلك ناهيك عن حقيقة أن معظم وكالات الأنباء العالمية (CNN، ABC، NBC، CBS ، United Press ، Associated Press) هي أمريكية وذلك فضلا عن فيسبوك، وتويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي التي يُقدّر عدد مستخدميها بالمليارات من البشر.
ثانياً: التعليم العالي (Higher Education) إذْ تتوفر الولايات المتحدة على عدد من أبرز الجامعات وأولها حسب التصنيفات العالمية (University Rankings)، مثل (هارفارد، ستانفورد، MIT) والتي تجتذب عشرات الألوف من الطلبة الدوليين، ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ هؤلاء الطلبة يسهمون بشكل أو بآخر عندما يعودون إلى بلدانهم في نشر الأفكار (Ideas)، والقيم (Values) الأمريكية.
ثالثاً: إشاعة القيم السياسية الأمريكية (Political Values) إذ من المعروف أن الولايات المتحدة تركز في تعاملاتها مع الدول الأخرى على القيم الديمقراطية (بالمفهوم الليبرالي الغربي)، ومفاهيم حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ومع أن هذه القيم قد لا تكون مقبولة من بعض الشعوب بسبب اختلاف الثقافات، وتناقضها مع السياسات الأمريكية إلا أنها غالباً ما تترك أثراً إيجابياً، وتُقدّم الولايات المتحدة بصورة مشرقة.
رابعاً: الدبلوماسية (Diplomacy)
حيث لا يستطيع أحد أن ينكر أن الولايات المتحدة تُعّد لاعباً رئيسياً (بحكم قوتها الشاملة) في العلاقات الدولية، وغالباً ما يكون لها الدور القيادي المؤثر في هذه القضايا.
خامساً: القوة الاقتصادية (Economic Power)
إن الولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم (يُشكّل اقتصادها ربع اقتصاد العالم تقريباً)، ومن المعروف أنها تقدم مساعدات مالية كبيرة للكثير من الدول (وبالذات من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية U.S Aid) وبخاصة عند حدوث الكوارث (Disaster Relieve)، وكذلك لغايات التنمية، الأمر الذي يعزز البعد الإنساني في مكانتها.
وعلى أية حال فإن أهمية القوة الناعمة الأمريكية تتفاوت حسب رؤى وأيديولوجيات الأفراد والدول وكذلك حسب السياسات التي تتبعها الإدارات المختلفة.
وإذا أتينا إلى الصين فإن قوتها الناعمة تنبع مما يلي:
أولاً: التأثير الثقافي (Cultural Influence)
وذلك بحكم إن الصين ذات إرث ثقافي غني (حضارة تمتد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة) ويتمثل أكثر ما يتمثل في اللغة الصينية، ومبادئ كونفوشيوس (Confucianism)، وبعض الفنون (Martial Arts)، كما أنها بدأت مؤخراً في إنتاج الأفلام (Hidden Dragon)، وتأسيس بعض المعاهد الثقافية (معاهد كونفوشيوس) التي تدرس اللغة الصينية، وتعّرف بأفكار كونفوشيوس كمرب ومصلح.
ثانياً: الدبلوماسية والمساعدات الخارجية (Diplomacy and Foreign aid)
حيث تركز الصين على توثيق روابطها مع الدول الأخرى معتمدة على مساعداتها وبالذات من خلال مشروع الحزام والطريق (Belt and road) الذي قدمت من خلاله الصين مساعدات ضخمة في مجال البنية التحتية (Infrastructure) للكثير من الدول.
ثالثاً: التأثير الاقتصادي Economic Influence
حيث أصبحت الصين ثاني اقتصاد في العالم، الأمر الذي جعلها مطلوبة للكثير الكثير من الدول في مجالات التجارة والاستثمار، ممّا يعزز قوتها الناعمة.
رابعاً: التعليم والابتعاث Education and Scholarship
إذ تقدم الصين كثيراً من فرص الابتعاث إلى جامعاتها للطلبة من كافة دول العالم مما يعّرف بثقافتها، ويعزز المكانة الإيجابية لها في أعين شعوب العالم.
خامساً: الدبلوماسية العامة Public Diplomacy
حيث تتبنى الصين الكثير من الحملات الدبلوماسية والتي تعرف بـ (Ping Peng Diplomacy)، والتي تشتمل عادة على تبادلات فنية (Artefacts)، ومسابقات رياضية (Sport-events) كأولمبياد 2008 (Olympics 2008)، الأمر الذي يوثق علاقتها مع الدول والشعوب الأخرى.
وبالطبع فإن تأثير القوة الناعمة للصين يختلف من منطقة إلى منطقة في العالم، كما أنه يصبح خلافياً (Debatable) أحياناً فضلاً عن أنه يترافق غالباً مع بعض النقد وبخاصة فيما يتعلق بالرقابة من قبل الدولة، واضعاف منظمات المجتمع المدني (NGOs)، وحقوق الإنسان.
إن مقارنة سريعة بين القوى الناعمة للولايات المتحدة والصين تشير بوضوح إلى أفضلية الأولى، ولذا فإنه ما زال أمام الصين طريق طويل لكي تنافس الولايات المتحدة في هذا المجال شأن المجالات الأخرى (العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية....)، ولكن المؤكد أن المنافسة بين الدولتين محتدمة، وأن مجال القوة الناعمة سوف يظل أحد المجالات المهمة التي لا تستطيع أيّ منها إهماله أو التهوين من شأنه.