.... أتذكر أول كشك في أبو نصير, كان صاحبه اسمه (أبو محمود)...في البداية ظننت أنه مجرد (كشك) لبيع السجائر والعصائر, لكن تبين لي فيما بعد أنه أول تجمع منظم انخرطت به.
كنت غالبا أثناء ذهابي للمدرسة, أتوقف عند كشك (أبو محمود), فقط لأجل التدخين.. أنا لا أعرف لماذا أصلا كنت أفعل ذلك, وانتظر البنات كي يعبرن إلى المدرسة من كافة المرتبات: (توجيهي, أول ثانوي, ثالث اعدادي)..كانت البنات في زمننا يختلفن عن بنات هذه الأيام, فحين تسمع مثلا أن خديجة تزوجت وهي في التوجيهي, يعتبر الأمر عاديا....أصلا لم يكن هنالك ما يسمى حملات ضد الزواج المبكر....أتذكر أيضا أن (عواطف) تزوجت في الثالث الإعدادي, وأنجبت توأما في الثاني ثانوي...كان الأمر عاديا جدا كما قلت.
فيما بعد انضم لي طلبة المدرسة, يبدو أنهم استحسنوا فكرة التدخين عند (أبو محمود) والرجل طور أدواته في التجارة بحيث صار يقوم ببيع الشاي لنا, ومع تقادم الأيام صار ينضم لنا مجموعات من الموظفين المترهلين, وأرملة كانت تعمل في مستشفى الجامعة الأردنية, (وشوفيرية) خط أبو نصير..وصرنا جميعا نجتمع بين السابعة والسابعة والنصف صباحا ثم نغادر.
كنت أنا النواة الأولى لتأسيس هذا التجمع, وأنا من اقترح على (أبي محمود) إضافة الشاي, وأنا أيضا من اقترح عليه أن يفتح دفترا خاصا لمن يريد أن يستدين.
ما زلت أحن لتلك الصباحات, ما زلت أتذكر باص الملكية الأردنية, كان يأتي لأخذ الموظفات..والغريب في الباص أنه حين يمر من جانبنا, كان يلقي بعطره علينا, يا إلهي كم كان يحمل هذا الباص من عطور, اتذكر أيضا بنتا من مرتبات التوجيهي..كانت توهم صديقاتها بأني أقف لأجلها فقط, ولكنها لا تعيرني أي اهتمام لأني (سرسري) هكذا كانت تقول, وأتذكر أن بعض الطلبة الميسورين والذين انخرطوا في المدارس الخاصة, كانوا ينتظرون الباص بجانب الكشك..وكنا ننظر لهم بنوع من الإزدراء, لأننا كنا نعتبر أنفسنا بأننا أكثر خشونة منهم وأكثر رجولة, أصلا ?نا ندخن علانية..هم لم يجرؤوا على فعل ذلك.
ذات صباح وحين وصلت للكشك, صعقت لأنه كان مغلقا, فأنا لم اعتد على أن أجد هذا المكان شاحبا... الدنيا كلها تغلق أبوابها إلا (ابو محمود) لا يغلق الكشك ماذا حدث؟..وحين سألت قيل لي, إن جلطة قلبية داهمت الرجل ليلة أمس..ونقلوه لمشفى الجامعة لكنه فارق الحياة....
يومها أحسست بأن قلبي أغلق, وباص موظفات الملكية لم يعد ينثر عطره, والبنات من كافة المرتبات..لم تعد أي واحدة منهن تستفز قلبي, حتى أن (عواطف) جاءت إلي وبكل جرأة وسألتني عن الرجل ولم أجبها, واعتبر الأمر من قبل رفاق الحي بأنها تريد مغازلتي..وأنا لا أعرف هي أرادت ذلك أم أنها أحست بحزني.
(أبو محمود)..شكل أول تجمع انخرطت به في حياتي, فقد أسست معه حزب الشاي والسجائر والحب...منذ ذلك التاريخ وحياتي موزعة بين جمر السجائر ورشفة الشاي وعيون البنات...وها أنا أتنقل في المقال بين هذا الثالوث لكني لم أعرف دفئا في العمر مثل ذلك الدفء الذي وجدته في عيون النساء...
الفقراء وحدهم من يجيدون الحب.