ذكرنا في بداية هذه السلسلة من المقالات أن للطاقة النووية نوعين من الاستخدامات، هما: استخدامات خشنة؛ يستعمل فيها أو ينجم عنها، مصادر إشعاعية كبيرة، مثل: صناعة السلاح النووي ومفاعلات توليد الكهرباء ودورة الوقود النووي. واستخدامات ناعمة: في جميع قطاعات التنمية الأخرى، في الطب والزراعة والصناعة وعلوم الأرض والبحث العلمي ودراسات البيئة ومصادر المياه والكشف عن الجريمة..الخ، وفها تستعمل مصادر إشعاع منخفضة المستوى. ولقد تعرضنا في المقالات الخمسة الأخيرة إلى الفرص والطموحات والتحديات أمام امتلاك وإدامة أي مشروع نووي من النوع الأول الثقيل؛ وندشن في هذا المقال الحديث عن النوع الثاني. منوهًا من البداية أن الفرص كثيرة لا تحصى، وأن التحديات أمام استخدامها لا تذكر؛ فكل ما نحتاجه فرق عمل مدربة ومصادر إشعاع غالبًا ما تكون خفيضة المستوى، أو متوسطة الإشعاع، مقدور عليها، ولا تشكل خطورة، ومخصصات مالية تكاد أن تكون رمزية إذا ما قورنت بكلف الاستخدامات الثقيلة التي تكلف مئات الملايين إلى المليارات من الدنانير؛ كما بينا سابقُا وسنرى لاحقًا.
لقد أثبت الإشعاع النووي، من الناحية النظرية والتجريبية، وكذلك الأشعة السينية التي هي غير نووية، أنه أداة فعالة وقوية للنفاذ إلى باطن المادة والتفاعل معها، من أصغرها على مستوى الذرة الواحدة إلى التراكمات والكميات الكبرى من المادة، والتكوينات الصخرية والجيولوجية الصلبة، مرورًا بالتكوينات الحيوية والجزيئية المعقدة على مستوى الخلية الحية، ومكوناتها. ولقد ساعدت قابليته للقياس بدقة متناهية، ومن بعد، على دراسة أعماق بعيدة تحت سطح الأرض والفضاء الخارجي وفهم تكويناتها وخصائصها، وفي العمليات الصناعية وخطوط الإنتاج الملتهبة والسامة التي لا يمكن إيقافها للقياس تلافيُا لتعطيل العمل أو الإضرار بخصائصها، أو الاقتراب منها بسبب خطورتها.
وليس هذا صحيح من الناحية النظرية وحسب بل وفي المجال التطبيقي كذلك. حيث تمتاز الاستخدامات الناعمة للطاقة النووية (أو الإشعاع) بالعديد من الخصائص جعلتها صنعة استراتيجية رائجة، في كل دول العالم، الغنية والفقيرة والمتطورة والأقل تطورًا وفي جميع مجالات الحياة. ومن هذه الخصائص: البساطة في الصناعة؛ وسهولة الاستخدام؛ وعدم الحاجة لتدريب طويل؛ وقلة الكلف لكل مشروع أو تطبيق (من آلاف إلى مئات آلاف الدنانير وحتى الملايين القليلة)؛ وغزارة الإنتاج والعائدات؛ وقصر مدة إنجاز المشاريع (من أسابيع إلى أشهر)؛ وقلة العمالة اللازمة لكل مشروع (آحاد إلى عشرات الأفراد)؛ وسرعة المردود (لحظي أو موسمي)؛ وكثرة المستفيدين (عشرات المؤسسات ومئات أو آلاف الأفراد)؛ وعدم الحاجة إلى مصادر مياه؛ وقلة كلف الصيانة؛ وعدم الحاجة إلى شركات خارجية أو دول لتنفيذ المشاريع أو تمويلها مما يكرس التبعية ويزيد عوامل عدم التيقن في التنفيذ والتمويل؛ وإمكانية تصنيع المستلزمات والمواد محليًا؛ وندرة الحوادث وصغرها ومحدودية تأثيرها إن حصلت؛ وسهولة التعامل معها واحتواء نتائجها.
لقد أعطت هذه الخاصيات (النادرة) الاستخدامات الناعمة للطاقة النووية ميزة علمية وصناعية كبرى، فيكاد لا يوجد مجال واحد اليوم من مجالات الحياة وقطاعات التنمية والخدمات، إلا وفيه مئات وحتى آلاف الاستخدامات أو التطبيقات، أصبحت تدر عائدات بتريليونات الدولارات، قيمة مضافة، في كل سنة، على المستوى العالمي. واستطاعت دول فقيرة، فضلَا عن الغنية، تحقيق مستويات متقدمة من الاكتفاء الذاتي الغذائي والصناعي، والرفاه الاجتماعي. وهو ما سنسلط عليه الضوء أكثير، وبشيء من التفصيل، في مجموعة المقالات التالية، لعرض أمثلة قليلة من التجارب والنجاحات الباهرة لعدد من الدول الفقيرة والنامية في مجال الاستخدامات الناعمة للطاقة النووية...
يتبع الطاقة النووية (8) الاستخدامات الناعمة للطاقة النووية (في الزراعة)