مدار الساعة- شهية، مُشبعة، ويمكن طهيها بألف طريقة.. إنها البطاطا التي يعشقها الجميع في كل أنحاء العالم.
تعد ثمرة البطاطا من أكثر محاصيل الخضراوات انتشاراً في العالم، وهي مُتعددة الأنواع فمنها البطاطا الصفراء، والحمراء، والبنفسجية بالإضافة إلى البطاطا الحلوة؛ وهي مناسبة لتناولها في أي وقت؛ حيث يمكن تناولها خلال الوجبات الثلاث الرئيسية، أو كوجبة خفيفة بينها، كما أنها زهيدة السعر ولا تُفرق بين طبقات البشر فالغني والفقير يتشاركها في غذائه.
تحتل البطاطا اليوم المركز الثالث بعد الأرز والقمح لأهم المحاصيل في جميع أنحاء العالم، ولكن أي مرتبة كانت تشغل قديماً؟ وكيف وصلت إلى ما هي عليه في حياتنا الآن؟.
قديماً كانت مخيفة واستخدمت زهورها للزينة
انتقلت نبتة البطاطا إلى أوروبا من خلال المستكشفين الإسبان، فعبرت المحيط الأطلنطي من البيرو وكولومبيا، مع الرجال الذين اكتشفوا العالم الجديد وأحضروا معهم نبتة أصبحت مُذهلة، مُخيفة، ومُحيرة بالنسبة للآخرين.
حينما تنضج نبتة البطاطا، تتفتح خمس زهور تتلألأ مثل نجوم أرجوانية، وتَروي كتب التاريخ أن ماري أنطوانيت، ملكة فرنسا أحبت تلك الأزهار لدرجة أنها وضعتها كزينة في شعرها، أيضاً زوجها لويس السادس عشر، كانت تضع له زهرة منها في عُروة معطفه.
وقد لاقى استعمال زهور البطاطا في التَزين رواجاً داخل الأوساط الأرستقراطية الفرنسية، ولم يكن الهدف من ذلك جمالياً فقط، بل كانت الزهور جزءاً من محاولات لإقناع المزارعين الفرنسيين لزرع البطاطا، وتشجيعاً للشعب الفرنسي أن يأكلوا هذا النوع الجديد من الخضراوات، حيث كان غريباً بالنسبة لهم في ذلك الوقت.
أنقذت أوروبا من المجاعات وساهمت في حضارة الشعوب
يعتقد كثير من الباحثين أن وصول البطاطا لشمال أوروبا وضع حداً للمجاعات هناك وساهم بشكل كبير في منع تكرارها، بل وأكثر من ذلك، إذ يذهب بعض المؤرخين مثل "ويليام ماكنيل" ، إلى أن البطاطا صنعت الإمبراطورية الأوروبية، من خلال إطعام هذا العدد من السكان المُتنامي بسرعة كبيرة، مما ساعد بشكل كبير عدداً من الدول الأوروبية أن تؤكد هيمنتها على معظم دول العالم في الفترة ما بين 1750 و1950.
فالبطاطا بعبارة أخرى، كانت سبباً في صعود الغرب لإمدادها أوروبا بالغذاء، فقد تم العثور من خلالها على حل نهائي لمشكلة الغذاء لأول مرة في تاريخ أوروبا الغربية بحسب رأي المؤرخ البلجيكي كريستيان فاندربوك، حيث أصبحت البطاطا في كثير من دول أوروبا أكثر مما كانت عليه في جبال الأنديز موطنها الأصلي.
وتقترن البطاطا في المطلق بتقدم الشعوب، حيث كان لها أثر كبير في تطور العديد من الحضارات القديمة الأخرى قبل وصولها أوروبا مثل: الحضارة المصرية القديمة، وحضارة شعب الأنديز، وأيضاً حضارة الإنكا، التي سيطرت على جزء كبير من جبال الأنديز وأنشئت الطرق السريعة والمدن الرائعة، فقد كان العامل المشترك بينهم جميعاً أنهم يتغذون من المحاصيل الدرنية والجذرية وأهمها البطاطا.
وقد أثرت البطاطا بشكل غير مباشر على تقدم الزراعة، فبسبب هجوم خنفساء البطاطا على المحاصيل، بدأ المزارعون المذعورون البحث عن حلول مما أدى إلى إنتاج أول المبيدات الاصطناعية "وهي خلطة من الزرنيخ" في هذا الوقت لإنقاذ محصول البطاطا.
وقد تطورت صناعة المبيدات الحديثة في ما بين 1940 و 1950، مما كان سبباً في تحسين المحاصيل، أيضاً الأسمدة عالية الكثافة والمبيدات الكيماوية التي تم إنشاؤها، فبدأت الثورة الخضراء، وتفجرت الإنتاجية الزراعية والفضل في ذلك يعود إلى البطاطا.
حُبنا للبطاطس ليس بسبب طعمها اللذيذ فقط
يشعر الكثيرون برغبة عارمة في التهام كمية كبيرة من رقائق البطاطا، لم يكن السبب معروفاً حتى وقت قريب، ولكن يعتقد العلماء الآن أنهم يعرفون ما يجعلنا نعشق البطاطا لتلك الدرجة.
اكتشف العلماء مؤخراً ما يسمى بـ "الطعم السادس" الذي يغذي الرغبة الشديدة في تناول الكربوهيدرات لدينا، فقد كان الاعتقاد السائد أن البشر باستطاعتهم تذوق خمسة مذاقات أساسية فقط: الحلو، المالح، الحامض، المر ومؤخراً الأومامي، وهي كلمة يابانية مُرادفة لاستمتاعنا بالطعام الجيد أو تعني "yummy" بالإنكليزية و تطلق على الطعم الشهي الذي لا يُمكننا تصنيفه من الخمسة مذاقات الأساسية، والآن يؤكد العلماء أننا قادرون على تذوق النكهة "النشوية" أيضاً.
أجرت جوان ليم، أستاذة علوم وتكنولوجيا الأغذية في جامعة ولاية أوريغون، اختباراً لإثبات نظرية "الطعم السادس"، حيث قامت "ليم" مع الفريق المساعد لها بحل وإذابة مستويات مختلفة من الكربوهيدرات في محاليل سائلة وإعطائها إلى 22 من المشاركين الذين طُلب منهم تقييم مدى تذوقهم لكل منها.
أكد المشاركون أنهم تذوقوا طعماً وصفوه بأنه "نَشَوي"، كان يُعتقد قديماً أن البشر يمكنهم تذوق فقط السكر في الكربوهيدرات بسبب الإنزيمات الموجودة في لعابنا، والتي تحول جزيئات النشا إلى سكريات بسيطة، مما يترك الطعم الحلو في أفواهنا.
ولكن حتى عند إعطاء المتطوعين مادة لمنع إنزيم اللعاب ومستقبلات المذاق الحُلو من العمل، فقد كانوا مازالوا قادرين على تذوق النشا، مما يشير إلى أن البشر يستطيعون تذوق النكهة النشوية قبل أن يتم تحويلها لسكر. ولكن إلى الآن وعلى الرغم من اقتناع الباحثين بذلك إلا أنهم لم يتوصلوا لإيجاد مستقبلات في اللسان لتذوق النشويات.
يوضح العلماء سبباً آخر لعدم قدرتنا على التوقف عن تناول رقائق البطاطا، ففي دراسة جديدة أكد العلماء أن الملح يجعل الناس يأكلون المزيد من الطعام والسعرات الحرارية بنسبة 11٪، كما يقول راسل كست الباحث الرئيسي والأستاذ في جامعة ديكن.
الفوائد المجهولة للبطاطس ستثير دهشتك
يجهل البعض فوائد البطاطا العديدة، فبالإضافة لأنها تحتوي على 100 سُعر حراري لكل ثمرة، فهي أيضاً مصدر هائل للفيتامينات والمعادن، حيث تحتوي على كمية من فيتامين C أكثر من الطماطم والبرتقال.
كما تحتوي البطاطا على 620 ملغم، أو 18٪، من القيمة اليومية المُوصى بها من البوتاسيوم، وهذا يجعلها مهمة للغاية إذ أن البوتاسيوم هو المفتاح للحفاظ على ضغط دم صحي.
البطاطا الحلوة أيضاً ليست خارج المنافسة، فالبطاطا المتوسطة الحجم تحتوي على 438٪ من القيمة اليومية من فيتامين (أ) الذي يقوي جهازك المناعي، و 37٪ من فيتامين (C) ، وبعض الكالسيوم، البوتاسيوم، والحديد أيضاً، كل هذا بـ105 سُعر حراري فقط، كما أنها تقدم لك 4 غرامات من الألياف الغذائية أي 16٪ من القيمة اليومية التي تحتاجها ودون أية دهون.
يختلف لون البطاطا ما بين الأبيض، الأصفر، الوردي، الأحمر، الأرجواني والأزرق و يرجع ذلك إلى وجود تركيزات مختلفة من "الكاروتينات" و"الأنثوسيانين"، وكلاهما من مضادات الأكسدة، و يُعتقد أنهما يلعبان دوراً هاماً في الوقاية من السرطان والأمراض المتصلة بالشيخوخة.
تعد اليوم زراعة البطاطا، وتصنيع رقائقها، وتصديرها كوجبات غذائية خفيفة أحد أهم الصناعات التي تعتمد عليها الكثير من الدول، وتعد الصين حالياً أكبر مُنتج للبطاطس.
كما أن زراعتها أيضاً تحمي الدول النامية من القصور الغذائي، لذا يبدو أننا قد نُورث حُبنا في تناول البطاطا إلى الأجيال القادمة، وفي ظل مشاكل العالم الغذائية سنبدأ بتقدير أهميتها في حياتنا؛ ومن يعلم قد تكون هي بعد فترة غذائنا الوحيد الذي يحمينا من المجاعات ويبقينا أحياء، مثل أسلافنا القدماء.