ملك الأرض وحكمها كلها أربعة ملوك وقد ذكرهم الله في القرآن الكريم؛ اثنان منهم مسلمان وهما النبي سليمان عليه السلام، وذو القرنين والآخران كافران هما النمرود وبختنصر (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ (التغابن: 2)).
سيكون تركيزنا في هذه المقالة على ذو القرنين: نشأ ذو القرنين في أمة مستعبدة ضعيفة سيطر عليها ملك دولة مجاورة ظالم وأجبرهم على دفع الجزية، عدة بيضات من الذهب الخالص. بدا ذو القرنين يدعو أمته إلى الاهتمام بعزتهم وكرامتهم والتوحد حوله وتأييده للتخلص من ظلم هذا الملك، فلم يستجيبوا له ومنعوه من الكلام بهذا الموضوع خوفا من ان يصل الكلام للملك فيعاقبهم، ولكن ذو القرنين لم ييأس وأصر أن يفعل شيئاً لقومه. وقد كان من صفاته العقيدة الصادقة والإيمان الراسخ بالله والحكمة، وكان عبداً أحب الله وأحبه الله، ناصح الله فناصحه الله، وكان قوي البدن مفتول الذراعين، له جديلتين من شعره الطويل (وكانوا يسمونها قرونا في ذلك الزمان)، فبدأ يدعو قومه إلى الإيمان بالله واستمر يدعوهم، لكنه لم يجد منهم إلا السخرية ونفروا منه فاتجه ذو القرنين إلى عنصر الشباب، ودعاهم فاستجابوا له وأحبوه وآمنوا بدعوته وزادت شهرته، حتى أصبح عدد الذين آمنوا بدعوته اكثر بكثير ممن كفر بها، فال تعالى (وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا، فَأَتۡبَعَ سَبَبًا (الكهف: 83-85)). ورأى ذو القرنين في منامه رؤيا عجيبة، وهي (أنه صعد إلى السماء واقتربت الشمس منه حتى أمسك بقرنيها بكلتا بديه) فقص هذه الرؤيا على أصحابه المقربين منه ففسروها قائلين له: بأنه سوف يصبح ملكًا ذا جيش كبير وسيملك الدنيا من المشرق إلى المغرب. فبدأ الجهلة من قوم ذو القرنين يستهزئون به، وفسروا الرؤية على أن الملك الظالم سوف يضرب ذو القرنين على قرني رأسه، أو أنه سيقتله ويعلقه من قرني شعره، وبسبب هذه الرؤيا سمي ذو القرنين بهذا الاسم وهذه اصح التفسيرات عن تسميته بذي القرنين. وبعد ازدياد عدد أنصار ذي القرنين أصبح ملكاً على البلاد، وعاهدوه انصاره على السمع والطاعة ومحاربة عدوهم حتى يرجع لهم حقوقهم كاملة ويصد عنهم الملك الظالم، وكانت بلاده تدفع للملك الظالم ضريبة، كما ذكرنا سابقا عدة بيضات من الذهب الخالص. ولما جاء وقت الدفع فوجئ الملك الظالم بأن ذو القرنين لم يدفع شيئاً، ولم يكتف بعدم الدفع فحسب، بل طرد رجال الملك الذين يأخذون الضريبة، وأرسل للملك الظالم رسالة يستهزئ فيها منه قائلا: إني قد ذبحت الدجاجة التي تبيض الذهب وأكلت لحمها فليس لك شيء عندي. فعرف الملك عن ذي القرنين بأنه شاب صغير السن فأرسل له ساخراً به وقائلا له: أرسلت لك كرة وسوطاً وكمية من السمسم فالكرة والسوط لتلعب بهما فإنك صغير تحب اللعب، وابتعد عن الغرور فلو كان جنودك بعدد حبات السمسم لأتيت بك.
فرد عليه ذو القرنين سأنتصر عليك ولو كان جنودك بعدد حبات السمسم التي ارسلتها لي او اكثر وذهب ذو القرنين بأنصاره إلى بلد الملك الظالم، فألقى الله الرعب في قلوب سكان بلدة الملك الظالم، فذهبوا إلى ملكهم وطلبوا منه أن يتصالح مع ذي القرنين، فغضب الملك من هذا الكلام، وخرج بجيشه لملاقاة ذي القرنين الذي تمكن من هزيمته وقتله، وأصبح هو الحاكم على البلد المجاورة فنشر فيها العدل والاستقرار والأمن والأمان وأدخل السرور والفرح على قلوب أهلها. وبعد هذا النصر عزم ذو القرنين على إعلاء كلمة الحق في كل مكان من الأرض، وقد مكن الله له في الأرض، وأعطاه الإمكانات الهائلة فسار إلى مغرب الشمس حتى وجد نفسه في سهول فسيحة ليس لها نهاية ذات أرض طينية سوداء، فرأى منظر غروب الشمس، حتى خيل له أنها تغوص في تلك الأرض الطينية، فوجد عند هذا المكان قومًا كافرين فانتصر عليهم، ولكنه بدلا من قتلهم أو أسرهم نصحهم وأصلح شأنهم وبنى في تلك البلاد المساجد وآمن أهل هذه البلاد (حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا، قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا، وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا (الكهف: 86-88)). واتجه ذو القرنين إلى مشرق الشمس وكان كلما مر على قوم دعاهم للإيمان بالله فإن آمنوا أكرمهم وإن كفروا عذبهم بشدة، وسار ذو القرنين حتى وصل إلى بلاد نهايتها المحيط (ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا، حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا، كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا، ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا (الكهف: 90-92)). فأصبح يمشي في سهول الصين فوجد فيها أودية خصبة ومناطق واسعة وهضاب وعرة وظل يمشي حتى وصل إلى فتحة واسعة وعريضة بين جبلين عاليين ووجد واراء الجبلين أمة صالحة يعبدون الله، ولكنهم لا يعرفون لغة أي من البشر، لأنهم منعزلون خلف الجبل وسبب عزلهم خلف الجبل أنه من هذه الفتحة بين الجبلين كانت تأتي قبيلتان متوحشتان هما يأجوج ومأجوج وكانوا يأكلون كل شيء وكانوا يعتدون على الأمة الصالحة فطلبوا المساعدة من ذي القرنين بعد أن رأوا جيشه القوي وصلاحه. فذهبوا إلى ذي القرنين وأعلنوا إسلامهم وذكروا له خطورة يأجوج ومأجوج، وأنهم يتكاثرون بسرعة ويفسدون في الأرض، وعرضوا على ذي القرنين الأجر فرفض ذلك، وطلب منهم أن يعينوه على بناء السد، وأمر ذو القرنين القوم أن يجمعوا الحديد، وأمر المهندسين فقاسوا المسافة بين الجبلين وارتفاعهما، وأمر العمال فحفروا أساسًا في الأرض، ووضع قطعًا من الحديد بين الجبلين، وجعل بين كل طبقتين من الحديد طبقة من الفحم، ولا يزال يرفع الحديد العريض حتى سد بين الجبلين، وأشعلوا النار في الفحم حتى تحولت قطع الحديد إلى نار سائلة، وصب النحاس على الحديد المصهور فملاً الشقوق وتحول السد إلى سد عظيم عال لا يمكن النفاذ منه حتى من قبيلتي يأجوج ومأجوج. ولما رأى ذو القرنين ما صنعه حمد الله وشكره وقال: هذا رحمة من ربي (حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا، قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا، ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا، فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا، قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا، وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا (الكهف: 93-99)).