حان الوقت لكي يدرك العرب حجم الخديعة التي وقعوا فيها، لا أتحدث فقط عما يحمله التاريخ القريب من نكبات وهزائم و»مؤامرات ان شئت» «وافخاخ» وقعنا فيها، وانما عما حدث في الامس القريب وما تزال امتدادته تشكل حاضرنا وربما تهدد مستبقلنا ايضا، ابتداء من صفقة درعا وانتهاء بلعنة القرن القادمة.
نسأل الآن: الى اين نحن ذاهبون في هذه المنطقة؟ الاجابة بالطبع معروفة، وادلتها وشواهدها موجودة، فنحن ما لم نتدارك الكارثة ماضون الى «الجحيم» حيث المزيد من الآلام والجراحات والحروب الطائفية والمذهبية ومزيد من التقسيم والكراهية والضغائن.
ما العمل إذا؟ الاجابة ايضا حاضرة ومعروفة، ولا يمكن لاحد ان يجد غيرها مهما كانت ملاحظاتنا ومرارتنا ومواقفنا السياسية، ومهما كانت تقديراتنا وخيارتنا. لا بد ان يتحرك فينا صوت العقل، وان نجنح الى «الحوار»، فالحوار الجاد والمنعتق من شوائب الحسابات الذاتية،والضغوط الخارجية، ومن كوابيس «مقابر» التاريخ، هو سبيلنا الى التفاهم والتوافق، وهو دليلنا الى النجاة.
كيف يمكن ذلك؟ نحتاج الى صفقة قرن اخرى، سأحاول ان اشرح الفكرة: هنالك في اطارنا الحضاري ثمة ثلاثة مراكز قومية تتواجد (ويجب ان تتعايش) على هذه المنطقة، العرب والاتراك والفرس، هؤلاء يشكلون «الكتلة التاريخية» التي لا غنى لاحداها على الاخرى، صحيح ان داخل هذه الكتلة مشروعات تبدو متصارعة واحيانا متناقضة (المشروع العربي غائب اصلا)، وصحيح ان التقسيمات على هوامش المذهب: سنة وشيعة، والطائفة: اكراد وعرب وعلويون وارمن، والدين: مسلمون ومسيحيون، غالبا ما شكلت عوامل تفجير، او مصائد كيد ومكر وظفها الاخر لتمرير مصالحه، لكن الصحيح ايضا هو ان هذا «التنوع» والتعدد يمكن – بل يجب - ان يكون مصدر اثراء وغنى وتكامل، وعنصر قوة، هذا اذا ساد منطق العقل وسلمت النوايا وتحرك لدى الجميع هاجس الحفاظ على «وحدة» الامة وكرامة شعوبها ومصالحها العليا (لدفع الخطر عن الذات اضعف الايمان).
الدخول في « الحوار « يحتاج الى قرار تاريخي على مستوى القادة السياسيين والدينيين، لكن هذا الحوار في ظل ما حدث من مستجدات في منطقتنا التي انهارت بعض عواصمها وتمددت ايران فيها بشكل غير مسبوق (مع انكفاء تركيا وغياب العرب طبعا) يحتاج الى نقاش، فبعد 34 عاما من الصراع بين «الفقيه» والشيطان» الامريكي والغربي عموما نجح الطرفان في «ابتلاع السم» وطويت بذلك صفحة طويلة من تاريخ «العداء»، فيما لا يزال الصراع بين الجيران : «الولي» و»السلطان» من جهة وبين «الفقيه» و»الفقيه» محتدما داخل الإطار الإسلامي، وهي بالطبع مفارقة غريبة، واخطر ما فيها هو إمكانية توظيفها «لتفخيخ» اي حوار من خلال «اللغم» المذهبي الذي قد يدفع عجلة التاريخ للوراء سواء تعلق هذا التاريخ بما فعله قورش (542ق.م) أو بما فعله إسماعيل الصفوي (1501م) أو تعلق بما فعله السلطان سليم الأول (514)، مرورا بكل وقائع الصراع على تخوم المذهبين السني والشيعي، أو على تخوم «السياسة» وحروبها الممتدة، وصولا الى ما يحدث اليوم في دمشق وصنعاء وبغداد وغيرها من عواصمنا التي اشتعلت فيها النيران.
لا يعقل بالطبع أن تتصالح إيران مع ألد خصومها فيما لا يزال العرب ومعهم الاتراك عاجزين عن إبرام صفقة «تصالح» بين الأغلبية السنية وبين «الشيعة» الذين لا يشكلون أكثر من «10%» من المسلمين في العالم، حتى لو افترضنا صحة المخاوف التي تتردد حول «المشروع الإيراني» الشيعي الذي يستهدف العرب «والسنة تحديدا «، أو صحة الهواجس التي دفعت كل طرف منهما إلى «شيطنة» الآخر مذهبيا وسياسيا.
لا يخطر في بالي ابدا ان اقلل من هذه المخاوف والهواجس، خاصة بالنسبة لاهل السنة الذين يشعرون اليو بـ»بمظلومية « لا حدود لها، لكن هل يمكن أن يقبل العقلاء على الطرفين بان «المواجهة» وإدامة الصراع هو الحل الوحيد؟ او أن نصدق بأن «تركة» التاريخ الثقيلة قديما وحديثا، تمنع من الالتقاء للحوار ولو كان سرا، من بوابة «الوسطاء»، وذلك لإجراء ما يلزم من «مفاوضات» (كما فعلت أمريكا وإيران) للوصول إلى تفاهمات «الحد الأدنى» لكي لا نقول إلى صفقة قرن بحجم «مصالحات تاريخية»، والسؤال الاهم هنا ليس من يجرؤ على تجرع السم اولا، وانما: من يستطيع ان يبادر ويتنازل لتقليل ما أمكن من خسائر جراء استمرار هذه «الخصومة» المبالغ فيها، ولتفويت الفرصة على من يحاول «تفخيخ» الصدع المذهبي لضمان مصالحه أو استمرار هيمنته على المنطقة.
الدستور