انتخابات نواب الأردن 2024 أخبار الأردن اقتصاديات دوليات جامعات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب رياضة مقالات مقالات مختارة الموقف مناسبات شهادة جاهات واعراس مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة

شعوبٌ أكَلَتْ

مدار الساعة,مقالات
مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/03 الساعة 17:17
حجم الخط

الكاتبة: عهود عبد الكريم

حياة

صَعقت الريحُ البابَ بقوّة، فاستيقظَ الطفلُ مَرعوباً. رَكضَ إلى والدته يسردُ الحُلم الذي رآه .

ومن بين ثنايا الباب ظَهرَ خط نورٍ مُستقيم، هذه الشمس التي غابت طويلاً في منزلٍ فارغ. لا يحوي سوى شمعةٍ صغيرة وسقفٍ بثغراتٍ لا تُعَدّ.

بَرْزَخ

كان جوادي الوحيد في كُلّ المنطقة قدْ تَعبْ ولم يعُدّ يتحملّ عبئ المسير، من امامي ومن خلفي آلاف الناس المُهاجرين.

لا لُغة واحدة تجمعنا. كُلٌّ أتى من بلادٍ مُختلفة. جَمعنا شيءٌ واحد، ألا هو الظلم الذي اجتاحنا دون رَحمة، كانت والدتي تتكئ على عصاها الذي تُحافظ عليه أكثر من حِفاظها عليّ، متى كانت آخر مرةٍ تحدثنا بها معًا ومتى ضحكنا أو ابتسمنا!

لم يُكن هُناك حاكمٌ واحد أو ظالمٌ واحد، أو حتى أرضٍ واحدة تَجمعُ المظلومين فيها. لهذا قررتُ مع كُلّ هذه الجموع أن نبحث عن وطنٍ يحتوينا. أخبرتهم بأن الوطن ليس قطعة أرضٍ نسكنُ بها، إننا نصنعُ الوطن أينما حللنا ووطئنا، أن نجعل السلام شِعارًا لوطن لا الدم والحربْ.

جبتُ كُلّ بِقاع الأرضْ على هذا الجواد الوحيد الذي كُتِبَ لهُ أن يعيشْ ويتحملّ كما فَعلتْ، وأوصلتُ رِسالةً مَفادها أن نجتمع في بقعةٍ واحدة ونرحل لمكانٍ بعيد ليُصبح لنا وطنٌ بعد كُلّ هذه المعاناة - كانوا مُتعبين- ، فلا أبطال تؤرخهم كُتبّ التاريخ يُحرروهم من هذا الظلم ولا مُعجزات تجعلُ الأرض تنقلب على ظالميها، لهذا وافقوا على هذا القرار بكلّ أسى وأمل .

كُنتُ سابقًا قد أخترتُ المكان الذي سيكون وطنًا، ولن أقول بديلاً. بل سيكونْ وطناً مُستقلاً وأبدياً، ستؤرخهُ كُتبُ التاريخْ ويمشي على نهجه كُلّ الأجيال التي ستتبعنا، فلينعم الظَلَمةُ بِظلمهم إلى يوم الجحيم. وليَدَعَوا لنا أرضاً فقيرة لا تكون مطمعاً لهم.

لهذا أخترتُ مكاناً ذا موارد أرضية شحيحة وبحرٍ سنقوم باستصلاح الأرضْ من حوله وبعض جبالٍ سنربيّ بها العديد من الحيوانات، سنبدأ كما بدأ الخَلق ونطوّر أساليبنا في الحياة كما فَعلَ الإنسان منذً نشوء الأرض. بدءًا من العصور القديمة إلى الحديثة، المهم أن نوّرث الإنسانية لأجيالنا ونُصَحِحَ الخطأ الناجم عن الأنانية التي كَبُرَت لدرجةٍ فقدنا بِها السيطرةُ.

وَصلنا أخيراً لكن مات جوادي وحزنتُ عليه حُزناً شديداً، هو أيضاً فَعلْ ما يستطيع ولم يتمكن من تحملّ المزيد، رُغم أني كُنتُ سأعوضهُ عن كُلّ مشاق الرحلاتْ التي شاركني بِها .

كانَ الجميعُ مُتحمساً ومنهم والدتي التي استغنت عن عصاها، وهي تمشي مُبتهجة بالهواء العليلْ الذي هبّت نسائمه من الجبال.

تَنفستْ وأنا أتذكرُ الحروب في كُلّ السنين الآنفة، البلاد التي ابادها الحُكّام، حاكمٌ أنهى وجود الحياةٍ فيها لكي يُنشئ دولةً كما يُريد. وقبل بدئي بهذا القرار فكرتُ كيف لبشرٍ من لحمٍ ودمْ، ولدتهُ أمهُ وهنًا على وهن، أن يفعلْ كُلّ هذا! أن يجعل جيوشاً كاملة عبيداً تحت قدميه، تُنفذّ كُل مآربه وخططه وطمعه .

تَنهدت وبعدها قررتُ أن أكون أيضاً من لحمٍ ودم وحملتني أمي وهناً على وهنْ أن آخذ بيد كُلّ المظلومين إلى أرضٍ طاهرة.

متى بدأت هذه الشجاعة! منذُ تِلكْ اللحظة التي رَكضتُ بِها إلى أمي وأنا أسألها، (لِمَ كتاب التاريخ يا والدتي من صفحةٍ واحدة!)، قابلتني بسؤالٍ آخر (وما الذي تحتويه هذه الصفحة!) أجبتها وأنا أفتحُ لها كتابي من صفحةٍ وجملةٍ واحدة (شعوبٌ أكَلَتْ. وشعوبٌ أُكِلَتْ). قامت باحتضاني وهي تهمسُ في أذني: ( يا ولدي، لَمْ يأتي بطلٌ واحد تَكتبُ عنهُ التاريخْ. لم يَعُدْ لنا تاريخ ).

منذُ تلك اللحظة وتلك الهَمسة قررتُ أن أكون البطلْ، قررتُ أن أنشئ دولةً آمنة. ورغم كُلّ الذين واجهوا الموت ونحنُ في طريقنا للأمان ورُغم كُلّ تلك الآراء والذي استسلموا وعادوا. إلا أننا أخيراً وَصلنا، سنصنع التاريخ أخيراً.
تَنهدتْ ( لقد وَصَلنا ).

موتْ
(أمي، ما هذا الصوتْ في الخارج!)، أجابتهُ والدتهُ وهي تبكي (إن الحُلمْ الذي رأيتهُ. هو حُلمْ ملايين الناس، نُريدُ بطلاً واحداً يا ولدي).
(أخبريني اذاً ما الصوت في الخارج! أرجوك ..)
تنوحُ أكثر: (إنهُ صَوتْ الموت يا ولدي، صوت الموتْ)

مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/03 الساعة 17:17