نحن في مدى الهيمنة الأمريكية وليس خارجها، تغيرت أمريكا منذ 11 سبتمبر، جاءت بكل أشكال الهيمنة، استباحت سيادة الدول، وبنت سجوناً في كل مناطق العالم، وكان لكل رئيس أن يحمل معه مشروعاً جديداً للمنطقة، لكنها الهيمنة ذاتها، والامبراطورية ذاتها.
نهاية القرن العشرين أطفأ بيل كلينتون شمعتها، بمحاولة الوصول لاتفاق جديد عنوانه «السلام مقابل الأمن»، حدث ذلك حين رعى كلينتون مع الملك حسين رحمه الله في «واي ريفر» الأول العام 1998، مشروع انقاذ عملية السلام، لكن نتنياهو كان أحمق وأكثر عناداً، وهنا صدقت نبوءة الملك حسين رحمه الله قبل اعوام من تك السنة، وفي أيار 1996 حين انتخب نتنياهو كرئيس حكومة قال:» إن بقي هذا الرجل في الحكم سيحيل المنطقة إلى بركة دماء».
في واي ريفر، بلغ السيل الزبى من نتنياهو، الذي كان يتفنن في إرهاق الخصوم، كان أصغر رئيس حكومة في تاريخ اسرائيل، بيد أنه الأكثر عناداً وتقلباً، يقول آفي شلايم في كتابه أسد الأردن: «الرئيس كلينتون قال معلقاً حول مسلك رئيس الحكومة الإسرائيلية: نتنياهو لا يريد التوصل إلى اتفاق. إنه يحاول إذلالي وإذلال عرفات... ونصح الملك حسين كلينتون بالتمسك بموقفه وعدم الاستسلام لمطالب نتنياهو..».
غادر كلينتون الرئاسة، وقد وضع شاهد قبر السلام بيده، ولاحقاً يخسر نتنياهو في تموز 1999 ويصعد ايهود باراك، محاولاً العودة لواي ريفر ثان، هذه المرة عاند أبو عمار وصمد، ويومها هددت مادلين أولبرايت ابو عمار بالعزل، وصمد الختيار كثيراً، لكن رئاسة كلينتون انقضت لتهيمن سياسة جورج بوش الابن وتفتح الباب لعودة نتنياهو من جديد كوزير خارجية ثم وزير مالية مع حكومة أرئيل شارون 2002 بتطرف أكثر.
في زمن كلينتون التقى وجود نتنياهو رئيس حكومة، مع سيدة الخارجية الأمريكية البولندية الأصل اليهودية مادلين أولبرايت، التي اطاحت ببطرس غالي وقدمت كوفي عنان على خلفية مجزرة قانا، والتي اختلفت كثيرا مع جاك شيراك في مسألة تشديد العقوبات على العراق، والتي خاضت أساطير من العناد مع ابو عمار، وكان على الختيار أن يصمد في وجهها. وكان عليها أن تعجب به وتتمنى أن تُحصّل منه تأييداً لاتفاق شبيه بكامب ديفيد أو أوسلو لتختم به حياتها في الخارجية، وتخدم أيهود باراك ومن معه. بيدَ أنّ ثبوت عرفات وصلابته كانا من آخر ما يتركه من إرث لمن جاء بعده. وفي أحد الاجتماعات انسحب عرفات، من اجتماع معها في عام 2000 بعد أن أصرت أولبرايت على تسمية المسجد الأقصى بـ»جبل الهيكل».
جاء بوش محملاً، بهاجس الحرب، وضرروة حدوث كارثة مثل بيرل هاربر تعيد الهيمنة الأمريكية بعد الزمن الناعم لإدارة كلينتون، سبق تسلم بوش مقاليد الحكم في ايلول 2000 ظهور تقرير أعدته مجموعة فكرية تعمل في مشروع القرن الأمريكي الجديد، كان أبرز المساهمين بها ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، جيب بوش، وباول ولفووتز، وسمي هذا التقرير» إعادة بناء دفاعات أمريكا»، ومما جاء فيه أنّ عملية التغيير المطلوبة ستكون بطيئة «جدا بغياب أحداث كارثية جوهرية بحجم كارثة بيرل هاربر..» وفي الـ24 من تشرين الاول 2000 بدأ البنتاغون تدريبات ضخمة، تضمنت تدريبات ومحاكاة لاصطدام طائرة بوينغ 757 بمبنى البنتاغون، كان لحدث 11 سبتمبر (ايلول) مقدمات، وكان هناك أزمة اقتصادية عالمية تطل برأسها.
حدث ما حدث، طلبت الهيمنة الأمريكية، رأس العراق، ثم كان على السلام العربي الإسرائيلي أن يتلاشى من حرب الرصاص المصبوب في غزة، فتعمق عزل القطاع عن الوطن الموعود فلسطينياً، وتعمق الاستيطان وتلاشى الأمل بدولة فلسطينية.
حدث هذا في زمن همينة أمريكية في عهد باراك أوباما الذي استعاض عن الفوضى الخلاقة بالتغيير الناعم، الذي بشر به في خطابه بجامعة القاهرة، في 2009 وبعد عام على حرب غزة، تلا ذلك ربيع عربي ناعم، بلمسة أنثوية في الخارجية الأمريكية موقعة بيد مدام كلينتون.
كانت كلينتون مختلفة عن اولبرايت، لكنها كانت تبحث عن رئاسة جديدة وتاريخ جديد يعوض إخفاق زوجها معها شخصياً، ويعيد العائلة من جديد للواجهة عبر عملية السلام، وكان لها أن حاولت منافسة دونالد ترامب، لكن الأخير شبّك خيوط صعوده جيداً مع المال اليهودي، وكان عليه أن يَعدَ حلفاءه بدولة يهودية، وهو أمر رفضه الرئيس الامريكي هاري ترومان عام 1948م، الذي قبل بدولة اسرائيل وليس دولة لليهود حين اعترف بها.
لكن ترامب لا فرق لديه، لقد تغيرت أمريكا في القرن الجديد وتغيرت أكثر معه، حين جاء قبل أن ينقل سفارته للقدس، وحين عاد لبلاده مذكراً بأن المعادلة هي الدفع لأمريكا مقابل البقاء، بالنسبة للأنظمة العربية، وأما بالنسبة لاسرائيل فقد حصلت على أكثر مما تريد، وعلى ما قرره نتنياهو منذ زمن واي ريفر وفق مبدأ «الأمن مقابل السلام» وليس مقابل الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
الدستور