كثيرونَ هم أولئك الذين لم تكتحلْ عيونُهم برؤيةِ القدسِ إلا على شاشاتِ التلفزيون ، ولم يتخيّلوها إلا من خلالِ حكاياتِ الآباءِ والأجداد عن مسجدِها الأقصى المبارك، وقبة صخرتها المشرفة ، وقبابها ومآذنها ، وأسواقها المسقوفة ، وشوارعها العتيقة ، وأبواب سورها العظيم.
ما من مدينة في التاريخ كله تعرضت لما تعرّضْتِ إليه من أوجاع وآلام . ولكنكِ كنتِ دائما تنهضين . وما من مدينة ، أيتها المقدسة ، توجهت إليها أشداق الذئاب الطامعة الحاقدة كما توجهت إليك أيتها الغالية . ولكنك بالصبر والإيمان، وبجمر عروبتك، كنت دائما تحيلين الطامعين والحاقدين والمحتلين والغزاة إلى رماد نذروه الرياح ؛ لتعودي ، مرة أخرى ، السيدة النبيلة ، وعروس المدائن ، وحافظة العهدة العمرية .
يا قدس ، سلام عليك يا مدينة السلام ، سلام على أرواح الشهداء الذين ارتقوا ، ويرتقون كل يوم ، كالأقمار فوق أسوارك ، وفي شوارعك العتيقة. وسبحان الذي يُسري إليك، كل يوم، بأبنائك، فوق خيول العزة من غزة ؛ ليرووا دروبك بدم الشهادة ، وعطر القداسة .
سلام عليك يا قدس ، وأنت تقفين اليوم على مفترق الطرق . فهل أصحاب القرار في أمتنا قادرون ، في هذه الظروف ، على تدفئة ضلوعك بعباءاتهم ؟ وهل هم حريصون على أن تظلي العربية الحرة التي ما وهبت قلبها لغاصب ، ولا تنازلت عن ضفيرة من ضفائرها لطامع محتل؟.
فيا سيدة الطهر والعفاف، يا زهرة المدائن، سلام عليك، سلام على كل حجر فيك وزاوية وقبة. سلام على كل محراب ومنبر ، وعلى كل مئذنة وجرسيّة ، وسلام على كل مدرسة، وديـر ورباط وتـكيـة.
سلام عليك يا قدس، سلام على الأقصى، وعلى المآذن التي تنادي بأن الله أكبر من كل كبير وظالم . وسلام على أجراس ( القيامة )التي تعلن كل يوم أن المجد لله في الأعالي ، وأن الأرض، يا رب، عطشى للسلام، وأن القلوب ظمأى للمسرة.
وبعد يا قدس،
ستظل قلوبنا إليك ترحل كل يوم.. تطوف في أروقة المسـاجـد.. تعانق الكنائس القديمـة ، وتمسح الحزن عن المعـابد .