مدار الساعة - انطلقت اليوم السبت أعمال المؤتمر الخامس للدراسات التاريخية "سبعون عامًا على نكبة فلسطين: الذاكرة والتاريخ" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى ثلاثة أيام في الدوحة.
ويضم المؤتمر نخبة من الباحثين والمؤرخين والأكاديميين والخبراء التربوين في القضية الفلسطينية. يأتي المؤتمر السنوي للدراسات التاريخية تقليدٌ علمي سنوي في الدراسات التاريخية، يعقده المركز العربي في كل عام بهدف تطوير البحث التاريخي العربي، وتعزيز التراكم في المعرفة التاريخية، وتحقيق عملية التواصل بين المؤرّخين العرب، وقد خصص موضوعه لهذا العام لدراسة الكتابات التاريخية التي عالجت نكبة فلسطين.
وأوضح الدكتور عزمي بشارة أن المؤتمر يتناول "النكبة" بالمعنى الهيستوغرافي، أي دراسة عملية تأريخ النكبة وليس تاريخها الواقعي الحقيقي، وهو موضوع مازال يحتمل الكثير من البحث. وأشار إلى ثراء برنامج أعمال المؤتمر، كما أن عددا من الأوراق الجيدة التي تلقتها لجنت المؤتمر لم يتمكن أصحابها من الحضور ولم تدرج في برنامج المؤتمر، إلا أنها ستنشر في كتاب يجمع أعمال المؤتمر.
وقال إن محاور المؤتمر تضم إضافة إلى الأوراق المتعلقة بتأريخ النكبة، مجموعة مشاريع أخرى من بينها موضوع "وعد بلفور" الذي مرت مئويته العام الماضي وقد تقرر أن يكون محور الندوة السنوية التي تعقدها مجلة الدراسات التاريخية "أسطور" التي يصدرها المركز العربي، وبالنظر إلى ارتباطه بموضوع المؤتمر تم الجمع بين الحدثين، إذ يخصص اليوم الأخير من المؤتمر لموضوع وعد بلفور.
والمحور الثالث للمؤتمر مشروع بحثي يقوم به المركز العربي بالتعاون مع مجموعة مختارة من الباحثين العرب من مختلف الأقطار العربية وهو "قضية فلسطين في مناهج التدريس".
وقال الدكتور عزمي في هذا الصدد "هذا الموضوع أهمل كثيراً، وهو يعكس تدهورًا في الحالة العربية، فموضوع فلسطين مرتبط بمسألة الهوية العربية إلى حد كبير، يعني أن قضية فلسطين قضية عربية بقدر ما العرب عرب، وكلما تراجع هذا الموضوع، كلما حصل تراجع في الهوية العربية وتمزق وتشضي كما تشهدون الآن، خاصة في المشرق العربي، ومع بدء عمليات التطبيع مع إسرائيل وغيرها، ... إن رصد تطور منهاج التدريس في الأقطار العربية بمنتهى الأهمية كونه يعكس تغير الموقف من قضية فلسطين وتغير الموقف من الهوية العربية، لأنها مرتبطة بمدى التشديد على عروبة هذا القطر العربي أو ذاك، لذلك هذا موضوع في منتهى الأهمية لن نتوصل فيه إلى نتائج نهائية، ولكن ما توصلنا إليه إلى حد الآن هو بالتأكيد خطير، ويستحق المناقشة.
ويضم برنامج المؤتمر أيضا عددا من المشاريع التي يقوم بها المركز أو يدعمها، متعلقة بالموضوع نفسه، أهمها مشروع ديموغرافي حول إحصاء عدد الفلسطينيين في العالم بدعم من المركز، وقام به كل من يوسف كرباج وحلا نوفل، سيعرضون نتائج بحثهم حول عدد الفلسطينيين في العالم، والمشروع الآخر هو المؤشر العربي أكبر استطلاع للرأي العام في المنطقة يجريه المركز سنويا، وسيعرض مدير المشروع النتائج المتعلقة بالقضية الفلسطينية فيه.
وأشار بشارة أيضا إلى مشروع آخر يقوم به المركز العربي وهو مشروع "الذاكرة الفلسطينية" الذي يشرف عليه معين الطاهر. وأوضح أن هذا المشروع يسعى لمأسسة الذاكرة الفلسطينية ويسد فراغا كبيرا في الساحة حاليا، فهناك ضعفا في هذا الجانب مرده أصلا إلى ضعف المؤسسات الفلسطينية وتحديداً تراجع منظمة التحرير الفلسطينية، منوها في هذا الصدد بما قامت به ومازالت تقوم به مؤسسة الدراسات الفلسطينية في تأريخ القضية الفلسطينية وأبحاثها، إضافة إلى مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير والذي تراجع دوره منذ احتلال بيروت عام 82، لكنه خلف ثروة كبيرة، وأهمها ما فيها هو ما قام به المرحوم أنيس الصايغ مع فريق كبير في ظروف عمل فصائلي فلسطيني كان من الصعب أن تدخل عليها صرامة علمية وأن تصر على الصرامة العلمية في البحث وهو مشروع "الموسوعة الفلسطينية" الموجود الآن في كل بيت فلسطيني.
واعتبر أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يسعى الآن إلى ملأ فراغ كبير في هذا الجانب، منوها بالنزعة الحالية لدى عدد كبير من الباحثين الفلسطينيين الشباب، الذين يشارك عدد منهم في المؤتمر، يقومون بتأريخ القضية الفلسطينية، وهناك محاولة لتسجيل الذاكرة بسرعة سواء عبر التاريخ الشفوي، أو التوثيق ..إلخ، وبالأحرى هناك شعور عام يجتاح الجميع دفعة واحدة، وكأنه الفكرة آن أوانها، ومن دون تنسيق نجد في كل الجامعات عبر العالم باحثين يحاولون توثيق الذاكرة الفلسطينية وإغلاق مرحلة من تاريخهم ضرورة جمع وتوثيق أمور كثيرة خوفاً من ضياعها وكأن هناك شعورا في هذه المرحلة بأن من كان أمينًا عليها اختفى، وهو جهاز منظمة التحرير الفلسطينية، فلابد أن يتولى أحد جمع هذه الأمور قبل أن تختفي.
عالجت الجلسة الأولى التي ترأسها عزمي بشارة موضوع كتابة تاريخ النكبة والقضية الفلسطينية، فقد قدم الباحث معين الطاهر دراسة في مخطوطات أكرم زعيتر وقاسم الريماوي؛ إذ تناول مخطوطين لم يسبق لأحد أن اطلع عليهما. وأضاف أن وثيقة قاسم الريماوي (قائد ميداني 1919-1982) تحدّثت عن محاولة فلسطينية لإبقاء الضفة الغربية كيانًا فلسطينيًا مستقلًا وقاعدة ارتكاز للهيئة العربية العليا، وأمّا المخطوط الثاني، فهو اليوميات غير منشورة لأكرم زعيتر (قائد سياسي 1909-1996) وتضمّ تفصيلات عن الحالة الفلسطينية والعربية السائدة. وقد حرص الطاهر من خلال الدراسة إلى تتبع مواقف قادة الحركة الوطنية الفلسطينية واتجاهاتهم، إثر نكبة عام 1948، من خلال مقارنة بين المخطوطين.
في حين قدم الباحث أليكس وايندر دراسة في كيفية تحول ممارسة كتابة اليوميات إلى مدخل محدد لتجربة النكبة. وقد ركز وايندر في بحثه على اليوميات التي صدرت في الآونة الأخيرة عن النكبة، لكل من خليل السكاكيني ومحمد عبد الهادي الشروف، إضافةً إلى مواضيع أوسع من حيث الحجم والزمان وصلتها بتاريخ النكبة.
كما كشف وايندر من خلال هذه اليوميات عن كون النكبة خليط متنوع من الكوارث الفردية والمجتمعية، تتكشف بصورة غير متساوية وملتبسة، وتنتج خبرات ومخاوف مختلفة ترتكز على الفضاءات المعيشية التي تتكون منها فلسطين. ومن خلال القراءة في أوراق كمال عدوان، قدم الباحث أحمد جميل عزم دراسة حول كمال عدوان وهو أحد الفاعلين في الحركة السياسية في قطاع غزة، وفي الحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها، وذلك قبل اغتياله عام 1973. وأشار عزم بأن ذكريات كمال عدوان عن النكبة وما قبلها، تشكل نوعًا من القراءة التاريخية، التي يُبنى عليها تصور لمستقبل العمل الفلسطيني، ولتبرير "الكيانية" الفلسطينية.
الوثائق والصور والتاريخ الشفوي كمصادر لكتابة تاريخ النكبة
ركزت الجلسة الثانية للمؤتمر التي رأسها خالد زيادة على دراسة الوثائق والصور والتاريخ الشفوي الفلسطيني، فقد عالج الباحث توم ريكس السيرة الذاتية وممارسات التاريخ الشفوي في النكبة الفلسطينية، وقدم في هذه الورقة بحثًا في ذكريات الأحداث التاريخية في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني التي أدت إلى طرد جماعي لـ 750 ألف فلسطيني وقتلهم وإبعادهم. وركز ريكس على ذكريات الفتيان والفتيات الفلسطينيين في المدارس الابتدائية والثانوية الفلسطينية والبريطانية والمدارس التبشيرية الأجنبية في القدس القديمة والحديثة.
ويرى أنه وخلافًا لعديد المؤرخين العرب، فإن ماضي الشهود المدون في سيرهم الذاتية المطبوعة إضافة إلى رواياتهم الشفوية بوصفهم شهود عيان للنكبة في العصر الحديث، تعتبر طريقة خلاقة يتحقق من خلالها شهود العيان من تجاربهم المؤلمة قبل النكبة، وأثناءها، وبعدها.
في حين قدم الباحث بلال شلش مجموعة من الوثائق لحُماة يافا التي تغطي نشاطها وفعلها العسكري خلال فترة النكبة. ويرى شلش أن السنوات الماضية، وإن تكثف فيها حضور السّير والمذكِّرات، بصفتها مصدرًا تاريخيًا بارزًا في الأدبيّات التاريخية الفلسطينية المتعلقة بتأريخ حرب 1947-1948، إلا أنه يندر وجود دراسات نقدية لاستخدام هذا الصنف من الأدبيات مصدرًا تاريخيًا، خصوصًا في ظل غياب مصادر أولية أخرى كالمواد الوثائقية الأرشيفية العربية المتعلقة بالحرب. وأشار شلش أن مقولة الورقة الأساسيّة؛ بأن نصوص السير والمذكِّرات اليافيّة كتبت بعيون المهزومين، حضرت فيها هزيمة المدينة وأيامها الأخيرة، كما تضاعف فيها تأثير الهزيمة لتأثر أهل يافا بالهزيمة الكبرى التي تجلت في نهاية الحرب، وفقدان ديارهم وتشريدهم عنها، ولهذا كان لهذه السّير والمذكِّرات تأثير سلبي في دقة ما قدمته من معلومات وملاحظات واستنتاجات وتقييمات. ومن خلال رصد إمكانية استخدام الصور الفوتوغرافية مصدرًا في دراسة تاريخ النكبة، قدم الباحث عصام نصار دراسةً تستند إلى حدّ ما إلى الصور العربية القليلة التي التقطت في تلك الفترة، وقارنها بالصور التي أنتجها مصورون صهاينة وإسرائيليون، فضلًا عما أنتجه مصورون أجانب.
النكبة في بعض السرديات العربية
شكلت استعادة صورة وشكل النكبة في ذكراها السبعين، باعتبار أنها كانت فاتحة الهزائم وسبب تواليها، والتي آلت إلى راهن تاريخنا اليوم قضية رئيسية للبحث ضمن أجندة الجلسة الثالثة التي رأسها وجيه كوثراني. وقد قدم الباحث سعيد الحاجي ورقة حول صورة النكبة في المجتمع المغربي، وأشار أن المواقف الرسمية لمختلف الدول العربية من القضية الفلسطينية عامة، ومن نكبة 1948 خاصة، ظلت معروفة لدى الدارسين والمهتمين، إلا أن حضور هذه القضية في عمق المجتمع المغربي لم يحظَ بالقدر الكافي من اهتمام الباحثين.