ما سمعه وقرأه وشاهده العرب خلال العقود من الدراما البوليسية التي اسمها الفساد اوشك ان يضيف الى مستحيلاتهم الثلاثة مستحيلا رابعا، فالفساد كما يجري طرحه وتداوله عبر الميديا اقرب الى الغول او العنقاء، فكأنه شيء مجرد او غير موجود، وكأنه مجهول النسب ونبات شيطاني بلا جذور او جذوع.
لهذا السبب اصبح يتغذى ويسمن من كل اصناف المبيدات التي تستخدم ضده، لأنها اقرب الى الفيتامينات، ما دامت لا تسميه باسمه الحقيقي، ولا تضبط احدا متلبسا به، فالعدو في مثل هذا السياق التجريدي هو الفساد ولا علاقة له بالفاسدين او المفسدين، وهذا فقه قديم متجدد، بدأ مع اعلان الحرب على الشر واطلاق سراح الاشرار وتجريم التجارة السوداء التي حولت البشر الى سلع لكن تبرئة من يمارسونها.
وكم هو سهل هجاء الفقر والجهل لكن ما اصعب مواجهة هذين العدوين لأنها تتطلب جدية في انتاج البدائل، ولا ادري كيف اهتدى العرب الذين لا يطيقون التجريد حين يتعلق بالمنطق والرياضيات والموسيقى لكنهم يعشقونه حين يتحول الى مشجب تعلق عليه الادانات المنسوبة الى نائب فاعل واحيانا الى مجهول!
ولو كانت المقاربات والاطروحات والوصفات المقترحة لمقاومة الفساد قد ترجمت ميدانيا ولم يتبق في نطاق التوصيف لما تبقى على هذه الارض فاسد واحد، لكن الكلام سهل، وتلفيق العبارات الشاجبة ميسور حتى للهواة، لهذا قل ما تشاء عن الفساد شرط ان لا تقترب منه، وان لا تلامس عيّنة منه لوضعها تحت المجهر، فهل ستنتهي هذه المتوالية من التجريد الغامض الى تجريم الارهاب وتبرئة الارهابي وهجاء الفساد والتزلف الى الفاسدين؟
لا غرابة في ذلك فنحن نعيش زمنا تبادلت فيه الرؤوس والاقدام الادوار!
الدستور