يُجدد الرئيس الأمريكي دعوته لعودة جنود بلاده من سوريا، إذ إنّ لا فائدة من وجهة نظره من وجود الجنود الأمريكان في سوريا، فخدمات القوة العظمى على الأرض السورية تستفيد منها دول أخرى كما يرى سيد البيت الأبيض.
هنا تعيد تصريحات ترامب المجتمع الدولي لتصريحات سلفه باراك أوباما حين صرح مبكراً بعد انتخابه بسحب قواته من العراق، والتي نتج عنها الفوضى وظهور داعش وإعلان خلافة مزعومة في الموصل واحتلالها، والانسحاب لا يخلف دوماً إلا السمعة السيئة لأمريكا.
آنذاك عاش الأردن ظرفاً دقيقاً جراء الإرباك الذي خلّفة غياب الأمريكان من العراق فجأة، ولاحقاً تمدد الإرهاب من العراق إلى الحدود الأردنية. ترى ماذا يمكن أن يأتي به انسحاب ترامب من سوريا على حدودنا الشمالية وأمنها؟. الجواب عند القيصر بوتين وحلفائه، فهل تتقدم إيران نحو الجنوب السوري، وهو أمر لطالما دفع الأردن بالتنسيق مع الروس ضد حصوله.
المشكلة اليوم في ظرفية الانسحاب الأمريكي، إذ إن الراعي الأمريكي لديه أولويات ربحية أعلى سعراً، يحصل عليها من خلافات العرب بلا قتال، فهناك سلاح يباع واموال تدفع وصفقات توقع بلا نقطة دم امريكية واحدة، ورعاية لاسرائيل لتحقيق وعود ترامب لها، وفي المقابل هناك رغبة بترك الملف السوري للروس بعد الدرس القاسي الذي لقنه النظام بمعونة الروس للثوار والفصائل السورية، في الغوطة، والتي رحل أهلها إلى إدلب ليفتح هذا الترحيل الباب على إحاطة دمشق بنسيج ديموغرافي شيعي طائفي كي يبقى النظام محمياً من حاضنة طائفية.
هذا التغيير في وجه المكان والبشر، قد يَصلح للتكرار في الجنوب السوري، الذي لا يرغب الأردن بوصول إيران إليه، وعبّر الأردن عن رفضه له، وحذّر منه مراراً، ولا تريده دولة الاحتلال الإسرائيلي أيضاً.
في ظلّ الرغبة الأمريكية الجامحة لتعديل صفة الحضور في سوريا، وبعد انتشار وتشييد قواعد أمريكية في المنطقة الفاصلة بين سوريا والعراق، يبدو أن الانسحاب لن يكون متعجلاً، لكنه أيضاً لا يبدو مجرد تصريح مُتسرع للرئيس ترامب، بقدر ما يعبر عن رغبة بتولي دول الإقليم التي تحارب إيران بتسديد الفاتورة، كما ينبئ عن شكل جديد ورؤية مغايرة لمستقبل سوريا التي تنتقل بعد مائة عام من ولادتها إلى خريطة جديدة عنوانها عودة الأغراب إليها.
هذه المرة لن يكون الدخول لدمشق بتوقيع الجنرال الفرنسي هنري غورو الذي دخلها بعد معركة ميسلون في تموز 1920، بل ثمة قادم جديد، وقد يكون قاسم سليماني أو جنرال روسي سيتخذ صفة المندوب السامي الروسي الجديد.
تقسيم سوريا اليوم إلى بضع دويلات، قد يكون خياراً، فيُجمع السنة في إدلب، وتُطهر بقية مناطقهم، وتحاط دمشق بشيعة إيرانيين وعراقيين متضامنين مع علوي الساحل، فميا ينتظر الجنوب مصيره في صيغة دولة حوران التي رفضها سلطان الاطرش مفتتح القرن العشرين، كل ذلك وسط حيرة مجاميع المعارضة السورية بعد دروس التهجير القاسية.
لا لسبب يغرق السوريون بالدم ويشتت شعب كامل، إنها لعبة قذرة ساهم بها الكثيرون في سوريا وليس بشار الأسد وحده كي يحصل على شعب بمقاسه مُخلص ومفيد، غير أنه شعب رغب بالحرية، وسيكون عليه استعادة تاريخ مضى عليه مائة عام، حين وضعت البلاد السوريّة على خريطة التقسيم في لندن وكانت بداية النهاية لحلم الحرية والوحدة التي عبّرت عنها دولة فيصل بن الحسين في تموز 1918.
هو تموز الذي يَعدُ بالمحتل ويّذكر به، قبل مائة عام دخل غورو إلى قبر صلاح الدين وهذا أمر قد يتكرر، ربما يدخل جنرال شيعي، أو قائد الحشد الشعبي، للقبر السني الكردي ليُخَبّر الناصر لدين الله أنّ مشروعه السني انتهى، وأنّ دمشق لحقت بقم وأضحت تابعاَ لها.
هي لعنة التاريخ، لكنها ليست لعنة سوريا أو دمشق التي ظلت دوماً أكبر من كل الغزاة والمستبدينّ، وذات صباح سيفيض بردى ولو بمعونة تركية ليجرف كل الأوساخ في ظاهر دمشق وباطنها. الدستور