البعض يرى ان البلطجة تتجسد في سلوك شبان يزاوجون بين التكسب والإكراه فيستعرضون فتوتهم واسلحتهم وقساوة قلوبهم واستعدادهم لارتكاب الاعمال الوحشية التي ترعب من هم في محيطهم. المشكلة في هذا التعريف انه يحصر الظاهرة في الشباب الذين عانوا من الاقصاء والتهميش ودفعتهم تجاربهم لتبني اتجاهات معادية للمجتمع ويتجاهل التحولات التي طرأت على مجتمعاتنا لتخلق انماطا جديدة من البلطجة المركبة التي يمارسها بعض من هم في مواقع المسؤولية حيث تتداخل الفهلوة مع الفساد واستغلال الوظيفة في نسق يجعل منها ظاهرة تستعصي على الفهم والتحليل.
خلال الاسبوع الماضي وفي الوقت الذي استمرت فيه الاحتجاجات على ارتفاع الاسعار قال احد النواب وفي مداخلة ساخنة بانه يمتلك وثائق ومعلومات عن احد التجار الذي وصفه بـ"البليط " تبرهن على قيامه بالتحايل والتهرب الضريبي والابتزاز لبعض الشخصيات السياسية والنيابية من خلال اساليب وممارسات تخلّ بقيم واخلاق الوظيفة العامة دون ان يفصح عن اسمه الكامل او يقدم البراهين.
الاتهامات التي ساقها النائب والتهديد الذي ألمح له حول عزمه الافصاح عن المزيد من الوثائق والبيانات دفعت بالشخص المقصود الى اصدار بيان يفند فيه ادعاءات النائب ويتوعد بالملاحقة القضائية. القصة وتداعياتها وتفصيلاتها والتحليلات التي اعقبت التراشق بالاتهامات تضع النواب والحكومة واجهزة الرقابة والاعلام ومؤسسات النزاهة ومنظومة القيم في مواجهة تساؤلات جوهرية حول حجم التشابك والفساد والتدهور الذي وصلت اليه مؤسساتنا.
الشارع الاردني الذي ظل يكيل الاتهامات للنخبة السياسية ويتهمها بالفساد ويتساءل دون ان يلقى اجابات حول الاسباب الكامنة وراء الثراء السريع لبعض من يحلون في المواقع العامة او يعملون بالقرب ممن يشغلونها وجد في القصص التي تثار هذه الايام بعضا من الاجابات عن تساؤلاته المتكررة.
لا احد يعرف او يستطيع الاجابة عن سر العلاقة بين العاملين في الشأن العام وملكية شركات المقاولات الكبرى والعطاءات التي تتقاسمها شركاتهم وعن سر العلاقة بين النواب وملكية مقاهي تقديم الارجيلة والمطاعم السياحية وخطوط النقل العام ورخص شركات الطيران وغيرها من المرافق والامتيازات التي تحتاج الى رخص حكومية.
لا اعرف بالضبط عدد هذه الرخص والمرافق لكنني اعرف ان الرخص للحرف والمهن والنشاطات المقيدة منحت لنواب ومسؤولين سابقين او من خلالهم وبواسطتهم. غالبية المقاهي ورخص شركات الطيران والمطاعم وحتى رخص استيراد المواشي اعطيت لنواب وشركاء علنيين او صامتين.
الأزمة الأردنية اليوم ليست في استغلال البعض لوظائفهم ومواقعهم وخصخصتها لحسابهم والاستماتة في الحفاظ عليها بكل الاساليب والادوات بل في ان هؤلاء الاشخاص يظهرون بين الوقت والاخر ليحاضروا بالناس في الانتماء والوطنية والتضحية.
محنة الاردن اليوم لا تقف عند ازماته الاقتصادية والاجتماعية بل تتعداها الى ازمة اخلاقية ثقافية عصفت بكل المعايير والقيم والتقاليد التي كانت موجهة لكل من يحل في الموقع العام.
البلطجة التي نشهدها في الاسواق الشعبية والسطو الذي يتم احيانا على البنوك والصيدليات في وضح النهار صورة مصغرة وفجة عن السطو والتعدي الذي يمارسه البعض من خلال ادوارهم ومواقعهم.
المواطن البسيط يشعر بالكثير من الغبن وهو يسمع ان راتب وعلاوات ومكافآت موظف في القطاع العام يصل الى عشرة الاف دينار او ان انتقال شخص من وظيفة عمومية الى اخرى في قطاع مرتبط بالحكومة يرفع دخله عشرين ضعفا.
المواطن البسيط لا يجد تفسيرا للاسباب التي تجعل الشخص يتحول من طبقة محدودي الدخل الى طبقة الاثرياء بعد عدة اعوام قضاها في موقع عام لا تسمح قوانين العمل فيه بأي عمل آخر. الثروة التي يحصلها الاشخاص من مواقع الخدمة العامة تثير حفيظة المواطن وتفسر السباق المحموم بين المؤهلين وغير المؤهلين للحصول عليها.
الغد