المقابلة الثالثة لرئيس الحكومة الدكتور هاني الملقي منذ توليه الحكومة وعبر شاشة التلفزيون الأردني، والتي بثت أول أمس، كانت واقعية، فيما قدمه الرئيس من شرح للوضع المالي للبلد، وظروف اقتصاده وسلوك الناس وكان المحاور بمنتهى المهنية والذكاء.
الرئيس لا يحب ولا يتقن فن الخطابة، والبلاغة، وهذان أمران لا يفيدان، ولا يحققان لنا توازناً مالياً ولا يعدّلان من ظروفنا، والرجل برغم التناول الشعبي والنخبوي للمقابلة بنظرة متفاوته، كان على طبيعته المعتادة ولم يكذب ولم يشتهِ أن يرمي بوجوه الناس وعوداً غير ممكنة.
شخصياً انتقد الحكومة، ومثلي مثل غيري، بيدّ أن الحقيقة تقال ونكررها بأن الرئيس لا يشوبه فساد أو استثمار للسلطة أو تحكمه نزعة جهوية، لكن الرئيس نفسة قال إن رسالة الحكومة إعلاميا غير واضحة، وأنّ الحكومة تفتقد لإعلام يوصل رسالتها للمجتمع، واليوم الحكومة وبالرغم من أنها تواجه غضب الشارع جراء قراراتها الأخيرة، إلا أنها مصرة على أنّ تمضي للأمام كي لا نصل لمرحلة الإفلاس المالي التي كانت قريبة قبل عام، ونجحت الحكومة الحالية بالحدّ من الزحف إليها.
نعم، الأردن في ظرف صعب، لكنني شعرت في مقابلة الدكتور الملقي صدقاً ووطنية، وعدم مراوغة للمحاور، والرجل مستعد للرحيل وغير متشبث بموقع، لكنه أراد أن يقول إن الوطن هو الأبقى من الجميع.
ليس الملقي عابراً في تاريخنا، ولا نابتا في المشهد الوطني، ولم يأتِ محمولاً على بساط النهج الليبرالبي المتوحش، ومثله مثل غيره عليه وله، وقد عمل أوائل حياته في محطة طاقة الرياح في الطريق الصحراوي في منطقة بين الحسا ومعان، بقي هناك عامين ومعه زوجته، زاره الأمير حسن صدفة، وبعد شرح مفصل عن عمله سأله عن اسمه وعرّفه بنفسه، استغرب الأمير، وبعد شهرين نقل لعمان ولاحقاً ابتعثه اسحق الفرحان للولايات المتحدة. ومن جامعة اليرموك إلى العمل مرة أخرى بالمجلس الأعلى إلى مواقع وزارية تالية، وقد يقول قائل هذه سيرة عادية، وطبيعية، وهذا صحيح، وحال الدكتور الملقي مثل غيره من أبناء الوطن.
المهم، في العودة لمقابلة الملقي، قيل إن الرجل كان عصبياً، لكن هذه طبيعته، وقيل كان حاداً مقلاً في المفردات، وهذا أمر نجده مع كل المهندسين، فهم لا يحبون الإنشاء، ولكن الرجل لا ينافق ولا يستجدي البقاء، وطلب الحساب من الناس على افعاله أو أقواله.
المشكلة المهة التي أشار إليها الرئيس صمت الحكومات عن الجرائم المالية بحق الشعب، البورصات والتعزيم، وقد اعتبر إغراق المواطن بالقروض والتسهيلات أمراً لا يقل خطورة عنها، لكن أيضاً الحكومات أخطأت يا دكتور هاني، والحكومات تعدّت على المال العام وفصلت وظائف لأولاد الذوات.
والحكومات خلقت هيئات مستقلة متنمرة اليوم على الوزارات، ولم يفلح من سبق من الرؤساء بلجمها ودمجها، والنواب منحوا ثقة للحكومات بلا مساءلة، فزاد الانفاق ووصلنا إلى ما نحن به من خيبات.
لهذا كله، يسأل الناس عن جدوى القرارات الاقتصادية، التي تشابهت فيها الحكومات، وأورثت البلد عجزاً ودينا كبيرين. قيل إن «جرة» الغاز خط أحمر، وقيل أن الخبز خط أحمر، وأن قوت المواطن مثلهما، لكن اسقاط الخطوط توالى، ولم تنته الأزمات المالية، فجاءت الحكومة الحالية كما يقول رئيسها لتنهي العجز، وتضعنا على الدرب الصحيح، لكن إن ذهبنا مع الدكتور الملقي لما يريد، من يضمن الاستمرار بالنهج الصحيح بعده؟ وقد جربنا ذلك حين خرجنا من برنامج التصحيح الاقتصادي بعد العام 1994 وكيف انتهينا بعد ذلك بسبب الخبرات الليبرالية التي فككت المؤسسات وخصصت الأصول السيادية.
أخيراً، الحراك الغاضب والملتزم بالتعبير الراقي ضد سياسات الحكومة على حق، والدكتور الملقي بما قاله على حق وبمنتهى المسؤولية.
الدستور