مدار الساعة- خرج مشهد تسليم السلطة الرئاسية الأميركية في كابيتول هيل يوم القسم الرئاسي، أمس الجمعة 20 يناير/كانون الثاني، في تفاصيله الظاهرية، بصورةٍ منظمةٍ وتكريمية.
لم يفقد اليوم مراسمه التقليدية والمألوفة، إذ كانت جميع أساسيات الاحتفال بهذه المناسبة حاضرة، لافتات النجوم والشرائط، والشخصيات الهامة والطقوس الرسمية للقسم. كما أخذ الخصوم السياسيون موقعهم المعتاد على المنصة، كما يفعلون كل أربع سنوات، وتصافحوا بالأيدي ثم صفقوا لبعضهم البعض، وتبادلوا المجاملات الودية ليقدموا مظهراً من مظاهر الفخر والكرامة الوطنية.
لكن هذه المظاهر في واقع الأمر كانت صوريةً وخادعة، بحسب ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية. فقد كان خطاب تنصيب دونالد ترامب بمثابة إعلانٍ للحرب على كل ما يُمثله أصحاب هذه المظاهر الحضارية الشكلية.
لم يستحضر الرئيس ترامب عبارةً واحدةً يمكن تخليدها في ذاكرة تاريخ مثل هذا اليوم. لم تتربَّع كلماته في ثنايا عقلك لترفع من معنوياتك كما اعتاد أن يفعل أمثال لينكولن وروزفلت وكينيدي وريغان. لكن رسالة الرئيس الجديد كانت واضحةً كالشمس، إذ جاء بالقشة التي ستقصم ظهر البعير ليهدم الوحدة والاستمرارية المُتمثِّلتين في هذا الانتقال السلمي للسلطة. وربما نجح بالفعل في مسعاه. في عام 1933، تحدَّى روزفلت العالم بأن يتغلب على خوفه. وفي عام 2017، طلب ترامب من العالم أن ترتعد فرائصه خوفاً.
كان بإمكان ترامب أن يستخدم خطابه الافتتاحي لتعريف إحدى العبارات المُمَيِّزة لحملته الانتخابية في إطارٍ عام، معتبراً أنه في حال ازدهار إحدى أهم القوى الكبرى في العالم، سيزدهر حلفاؤها أيضاً، تماماً مثلما اعتقد العديد من الرؤساء السابقين، وفقاً لما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
لكن بدلاً من ذلك، اختار ترامب بديلاً متشدداً وقاتماً، بدا كنذيرٍ بنهاية التجربة الأميركية لتشكيل العالم، تلك التجربة التي امتدت على مدارِ 70 عاماً والتي تحمّس العالم لاتباع خطاها.
وفي الرؤية التي قدمها ترامب، تعتمد استراتيجية أميركا الجديدة على الفوز بكل صفقة وفي كل مواجهة، حيث قال إن الأيام التي كانت الولايات المتحدة تمد فيها مظلتها الدفاعية بلا مقابل، وتدفع المليارات لزيادة ثروات الأمم الأجنبية دون منافع استراتيجية محسوبة لصالح الولايات المتحدة، قد ولَّت.
جاء خطاب السيد ترامب ساخراً ومتبجحاً ومبتذلاً. وجاءت كلماته تغلي بالحقد والاحتقار للسياسة ومبدأ فصل السلطات في نظام الولايات المتحدة. وجَّهَ خطابه لمن صوَّتوا له، وليس للأغلبية التي لم تمنحه أصواتها. لم يتحدث مُطلقاً عن الأعراق المختلفة. وجاء حديثه القومي عن "أميركا أولاً" بكلماتٍ جافةٍ ووقحة. ثم ضجَّ خطابه بالاحتقارِ لكل ما تُمثله العاصمة، التي يسعى الآن لبسط سيطرته عليها، بحسب "الغارديان".
ورغم ذلك، لم يتعرَّض الخطاب لأي تفاصيلٍ أو توضيحاتٍ بشأن آليات تحقيق أهدافه. وحتى قبل أن يبدأ في التفوُّه بكلماته، كانت واشنطن قلقةً مما قد تعنيه رئاسة ترامب، بينما يترقب العالم بحذر ما يحدث لأميركا. وجاء خطاب السيد ترامب ليؤكد مخاوف الجميع.
قال ترامب جملة رنّت أصداؤها حول العالم بمجرد تفوهُّه بها على أعتاب مبنى الكابيتول: "من اليوم فصاعداً، سنهتم بأميركا أولاً فحسب. يجب علينا حماية حدودنا من تخريب الدول الأخرى التي تنسخ منتجاتنا، وتسرق شركاتنا، وتدمّر وظائفنا".
وأكد أنَّ الولايات المتحدة لن تستمر في إعانة "جيوش الدول الأخرى بينما نسمح بالاستنزاف المؤسف لجيش بلادنا".
وبينما تعهَّد كافة الرؤساء الأميركيين بالدفاع عن مصالح أميركا أولاً - فهو جزء من اليمين الرئاسي - فقد ترجم هؤلاء الرؤساء السابقون، من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، منذ الحرب العالمية الثانية، هذه الجهود إلى توسيع نطاق النظام الليبرالي الديمقراطي.
وحتى اليوم، تمثِّل السياسة الأميركية رفضاً قاطعاً لصيحة الحرب "أميركا أولاً" التي صرخ بها الطيار الشهير تشارلز ليندبرغ حينما صار من أهم الأصوات المنادية بعدم تدخل الولايات المتحدة في حروب أوروبا في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، حتى وإن كان ذلك يعني تخلي البلاد عن أقرب حلفائها.
بعد الحرب العالمية الثانية، دفنت الولايات المتحدة رؤية "أميركا أولاً" التي نادى بها ليندبرغ. ووُلِدَت الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو ونشأت في مانهاتن على ضفاف نهر "إيست ريفر". وكانت تجربة طموحة، وإن كانت لم تتحقق، لتشكيل ذلك النظام الليبرالي.
كانت مساعدة الأمم المهزومة في الحرب العالمية الثانية، ليصبحوا حلفاءً ديمقراطيين، هي الفكرة الكامنة وراء مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب، وتأسيس البنك العالمي ومنظمات توزيع المعونة والتكنولوجيا والخبرة الأميركية عبر العالم.
وتضيف "نيويورك تايمز" أنه علاوة على ذلك، تأسَّسَ حلف الناتو لترسيخ الالتزام بالدفاع المشترك، مع ملاحظة ترامب الصائبة أنَّه بعد قرابة السبعين عاماً، لم تفِ الكثير من البلاد من أعضاء الحلف بنصيبها من العمل.
عادةً ما يصل الرؤساء إلى مقعد السلطة بعد أن يقدموا وعودهم بدفعِ الأمةِ في مسارٍ جديد. وإذا قررنا تصديق كلمات السيد ترامب، فإن انتخابه وخطابه هما خير دليلٍ على أكبر إعادة هيكلةٍ وشيكةٍ في تاريخ واشنطن المعاصر.
السؤال الأهم في المستقبل هو ما إذا كان بإمكاننا تصديق السيد ترامب. سخر ترامب في خطابه من أصحاب الأقوال لا الأفعال. لكنه هو أيضاً يواجه خطر السقوط ضحيةً لما سخر منه. فقد رفع سقف التوقعات لفترته الرئاسية إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ بإصراره على أن كل شيءٍ سيتغير "في التو واللحظة". لكن هل سيحدث هذا فعلاً؟ لقد ازدادت قوة الرئاسة على مدار العقود الماضية، ووضعت انتخابات 2016 الجمهوريين في موضعٍ يسمح لهم بالتحكم في كافة الأسلحة الحكومية. لكن السيد ترامب لم يصبح ديكتاتوراً بعد، حتى الآن على الأقل.
لا زال يتعين عليه أن يحكم البلاد بكونغرس لا يشاركه كل أولوياته، ووفقاً للقانون ستضطر المحاكم للفصل في مثل هذه الحالات، وفي حالاتٍ أخرى، قد تكون أولويات السيد ترامب متوافقةً مع هوى الكونغرس. ولدى الولايات سلطاتٌ كبيرةٌ لرفض قراراته، كما يبدو من موقف ولاية كاليفورنيا الرافض لبناء جدارٍ حدوديٍ مع المكسيك.
يرى الكثيرون أن الناخبين اختاروا السيد ترامب وهم يعلمون أنه سيتحدى النظام، لكنهم على ثقةٍ بأن النظام سيحمي الناخبين من أسوأ العواقب المترتبة على ذلك. قد يكون هذا صحيحاً. لكن لا ينبغي الاستهانة بقدراتِ السيد ترامب، فهو من المتفاخرين بالإخلال بالنظام وليس من الودعاء الطيبين الذين يمتثلون للأعراف والتقاليد.
أعلن خطاب ترامب الجريء بوضوح أن تهديده بالانسحاب من تلك المؤسسات، إذا استمرت باستغلال الاستعداد الأميركي لتقديم المعونة لهم، قد يتحول عاجلاً إلى سياسةٍ معتمدةٍ للبلاد. قال ترامب، مُلوِّحاً بقبضته في الهواء، إنَّ عقوداً من السخاء أدت بأميركا إلى الفشل.
وأضاف: "لقد جعلنا دولاً أخرى ثرية، بينما تلاشت ثروة، وقوة، وثقة بلادنا في الأفق البعيد". وقال إنَّ الطبقة الوسطى الأميركية مرّت بالقدر الأكبر من المعاناة، حين وجدت نصيبها من الحلم الأميركي مُقسَّماً على العالم بأكمله.
وبالنسبة لهؤلاء الذين ساهموا في بناء النظام العالمي، أكّد ترامب أن رؤيتهم كانت قصيرة الأمد في أحسن تقدير. ويقول ريتشارد هاس، والذي يعتقد في كتابه "فوضى العالم" أن وجهة النظر المصغَّرة وقصيرة المدى تجاه المصالح الأميركية ستفشل في النهاية: "بنى الرئيس الأميركي السابق ترومان، ووزير خارجيته أتشيسون تلك السياسة الأميركية التي تقوم على أساس (العالم أولاً) وليس (أميركا أولاً)".
وقال هاس بعد خطاب ترامب: "سيدفع موقف (أميركا أولاً) ضيِّق الأفق الدول الأخرى لتبني سياسةٍ خارجيةٍ مستقلةٍ بنفس ضيقِ الأفق، ما سيُضعِف النفوذَ الأميركي ويؤثر سلباً على الازدهار العالمي".
وبالنسبة لترامب ومؤيديه، كان هذا الرأي بالتحديد هو ما وضع أميركا على منحدرٍ زلقٍ باتجاه الزوال. وكمستثمرٍ عقاري، كان من السهل قياس عائدات ترامب الاستثماري. وبالتالي ليس مفاجئاً أن يكتب أداء القسم على استمارة نقاط يحسب فيها المكاسب والخسائر.
من المثير للفضول أنه بين المسؤولين الذين عيّنهم ترامب من يشكِّك في آرائه. دافع مرشّحه لوزارة الدفاع، جيمس ماتيس، بقوة عن أهمية الناتو أثناء جلسة تقييمه كمرشح أمام مجلس الشيوخ، وتغنّى كلٌ من المرشح لوزارة الخارجية ريكس تيلرسون، والمُختارة لمنصب سفير الأمم المتحدة نيكي هايلي، بالحاجةِ لإقامةِ تحالفاتٍ أميركية متينة، لكن تيلرسون تراجع عن رأيه ليتبنى رأياً جديداً يردِّد أصداء ترامب.
"أميركا أولاً"
ويبقى الآن سؤال ما إن كان المعنى الدقيق لـ"أميركا أولاً" سيستمر في التطور في رأي ترامب.
تحدث ترامب عن "أميركا أولًا" للمرة الأولى أثناء مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز في شهر مارس/آذار الماضي، حين سُئل عما إذا كانت العبارة تمثّل تلخيصاً جيداً لآرائه بشأن السياسة الخارجية.
فكّر بالأمر للحظة، ثم اتفق مع ما قاله المراسل، مُعلِّقاً على ذلك بأن العالم "عاش على حسابنا لسنوات"، وأنه لا يثق أبداً في الأجانب، سواء كانوا خصوماً أو حلفاءً.
أجاب ترامب: "هذا صحيح". ثم أضاف بأسلوبه المتقطع: "ليس بشكل انعزالي. لستُ مؤمناً بالسياسة الانعزالية، لكنّي مؤمن بأن (أميركا أولاً). يُعجبني هذا التعبير". ثم بدأ يستخدمه في كُل فعاليات حملته الانتخابية.
وفي مقابلة أخرى مع صحيفة نيويورك تايمز تايمز أيضاً، عشية المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، أجرى ترامب تعديلاً على كلامه، إذ قال إنَّه لم يقصد أن يؤخذ الشعار بالمعنى الذي كان يقصده ليندبرغ. وأضاف: "أستخدم الشعار كمصطلحٍ عصريٍ وجديدٍ كلياً. ويعني أننا سنهتم بمصالح البلاد أولاً قبل القلق بشأن بقية العالم".
رسم ترامب دورَ أميركا الجديد في العالم في صورة قوة عظمى مُضطهَدة، وليس قوة عازمة على تغيير العالم. لم يشهد الخطاب أية إدانة للاستبداد أو الفاشية، ولم يُنادِ بالدفاعِ عن حقوق الإنسان حول العالم، في حين كانت تلك إحدى الالتزامات التي تحدّث عنها جون كينيدي في خطابه الشهير، والذي ألقاه منذ 56 عاماً من يوم أمس، وهو الالتزام بحماية حقوق الإنسان "في موطننا وحول العالم".
كانت تلك، بالطبع، أشهر مقولات كينيدي: إنَّ أميركا سوف "تحمل أي عبء، وتواجه أية محنة، وتساند أي صديق، وتقاتل أي عدو، لتضمن انتصار الحرية وبقاءها".
لكن أميركا التي انتخبت ترامب قرَّرَت أنها لم تعد راغبة في تحمُّلِ العبء - أو حتى أن تجعل نشر الديمقراطية مهمة للبلاد، كما تعهَّد منذ 12 عاماً جورج بوش الابن، الذي جلس خلف ترامب أثناء التنصيب. فيما يرى ترامب أن الديمقراطية الأميركية سلعة فاخرة يستوردها من يريدها.
ينوي ترامب في قرارة نفسه أن يظهر مختلفاً عن الرؤساء السابقين: في شخصيته، وأسلوب عمله، وطريقته في التواصل، وأهدافه السياسية في المقام الأول. ويتفق في ذلك من يؤيده ومن يخافه على حدٍ سواء.
ومع ذلك، فقد وصل إلى البيت الأبيض بمؤشراتٍ منخفضةٍ وسط شعورٍ عميقٍ بالانقسام. وقاطع العديد من الزعماء حفل تنصيبه، بينما سيتظاهر ضده عشرات الآلاف. وقد تنجح محاولاته لقلب الهرم السياسي الأميركي رأساً على عقب في إثارة حماس البعض – فأسهم البورصة تغلي - لكن نفس المحاولات سترعب آخرين في الوقت نفسه.
ستكشف لنا الأسابيع والشهور المقبلة حقيقة نوايا السيد ترامب الهدَّامة. ويمكنكم الاطلاع على الدفعة الأولى من جدول أعماله المضطرب على الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض. على المستوى المحلي، سيكون برنامجه الأكبر هو مشاريع البنية التحتية التي شكَّلت الوعد المُفصَّل الوحيد في خطاب التنصيب. أما خارج الحدود الأميركية، فتظل الكثير من الأمور محض تكهنات، إذ يُشكِّل الصدام المحتمل مع الصين التهديد الأكبر على الإطلاق، بينما يعتمد وصول ترامب إلى مساعيه مع روسيا على حكومته المشكِّكَة في الأمر.
قال ترامب في خطابه: "انتهى وقت الكلام الفارغ. والآن دقت ساعة العمل". لكن في ضوء، خطابه أمس، فإن هذا المصطلح مُثيرٌ للرعب بحق، سواء على المستوى المحلي أو العالمي.
هافنغتون بوست عربي