يدرك كثير من الأردنيين بأنّ الملك الراحل، الحسين بن طلال، ليس ملاكاً، ولم يكن منزّهاً عن الخطأ والأخطاء، لكنّهم - مع ذلك- يرونه مختلفاً في منهجه في الحكم وإدارته لشؤون الدولة، عن أغلب النماذج والأمثلة العربية الأخرى!
هنالك علاقة تكاد تكون خاصة جداً، قد لا يفهمها كثيرون –خارج الأردن- بين الحسين والشعب الأردني، وسرّها الحقيقي هو أنّه أحبّهم إلى درجة التماهي، وعمل لصالحهم بتفانٍ شديد، لم يخلق حواجز أو جدرانا بينه وبين المواطنين، وانفتح على الجميع، فكان يمنح وقتاً طويلاً للحوارات الداخلية مع سياسيين ومسؤولين، من مختلف التيارات.
تجد هناك ذكريات خاصة يحملها قيادي إسلامي، مثل عبد اللطيف عربيات، عن جلسات خاصة معه، وأخرى للمعارضين البارزين خلال فترة حكمه، مثل: ليث شبيلات وتوجان فيصل، وأخرى لمثقفين وسياسيين مثل عدنان أبو عودة، وأغلب السياسيين، وحتى مواطنين آخرين قُدّر لهم أن يلتقوا به، وتجد قصصاً طريفة تعكس حسّ الفكاهة لديه يحملها كثيرون، أورد بعضاً منها المتحدثون (رئيس الديوان الملكي، فايز الطراونة، ود. جواد العناني، ود. كامل أبو جابر) في ندوة عقدها مركز الدراسات الاستراتيجية (أول من أمس) عن فنّ الحكم لدى الحسين، بمناسبة ذكرى رحيله؟
الحسين كان مدرسةً في فنّ الحكم، ومعلّماً في إدارة الأزمات الداخلية والإقليمية، وفي التعامل مع الضغوط الشديدة. لكنّه قبل ذلك كان نموذجاً عربياً استثنائياً في الجانب الإنساني والأخلاقي، وربما اختصر ذلك بوضوح رئيس الوزراء الأسبق، عبد الرؤوف الروابدة، بأنّ الحسين لم يكن يضع قدماً على قدم أمام أي زائر.
ولخّص معادلة الإنساني والسياسي في شخصية الحسين، د. فايز الطراونة، وكان آخر رئيس وزراء في عهد الراحل الحسين، عندما قال إنّ الحسين بن طلال تغلّب على الملك الحسين، ويقصد بذلك أنّ الحسين الإنسان طغى في تأثيره ومواقفه واعتباراته على مقتضيات الملك والسلطة والحكم.
مع ذلك بقي أغلب إرث الحسين شفهياً، تجده في كثير من الجلسات من مواطنين بسطاء، ومن مسؤولين وسياسيين، يستأنسون به ويستذكرونه، لكن كثيراً منهم يستنكفون عن كتابة مذكراتهم ورواية قصصهم وآرائهم، وكأنّ ذلك ملك خاص لهم، بينما هو ملك للدولة وتراثها وأرشيفنا الوطني، الذي يعاني معاناة شديدة من النقص وضياع الوثائق والتوثيق والمعلومات وتوزّعها بين مؤسسات عديدة، وكأنّنا دولة بلا أوراق ولا وثائق تاريخية حقيقية!
بالطبع، مشكور د. محمد عدنان البخيت على الجهود المهمة التي يقوم بها في مشروع "الوثائق الهاشمية" في مركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية، وهنالك اليوم العديد من المجلدات، أغلبها عن مرحلة الأمير والملك المؤسس عبدالله الأول. لكن المطلوب أن تنهض مؤسسات أخرى للمساهمة في جهود التوثيق وبناء الرواية والسرديات، فذلك جزء أساسي من الهوية الوطنية الأردنية، وأن تقوم الشخصيات التي عاصرت الحسين وعملت معه بكتابة مذكراتها أو تقديم شهاداتها.
الهدف من ذلك ليس فقط أكاديمياً، على أهميته معرفياً، بل وطنياً بامتياز، لأنّ منهج الراحل في الحكم وإدارة الدولة والسياسات، هو جزء من تقاليد رسّخها الهاشميون بسلوكهم وسياساتهم، من الضروري أن تكتب وتدوّن وتحلل، لأنّها جزء من هوية الدولة وأداة مهمة لفهم ما حدث ويحدث، نستفيد منها سياسيا، حتى من الأخطاء التي وقعت وتقييم سياسات الراحل.
الغد