من الظواهر المرضية التي أصابت مجتمعنا وأمتنا، أننا أصبحنا قوم نجيد تفريغ الأشياء من مضامينها، بقدرة لا يفوقها إلا قدرتنا على تتفيه القضايا الكبرى،وتحويلها إلى مواسم للثرثرة الفارغة من المضمون، وذلك عندما نستسهل الحديث حول هذه القضايا بغير علم أو دراية، وعندما نتعامل معها بدون إحساس بالمسؤولية من جهة، وبدون معرفة وتخصص بموضوع القضية محل الحديث من جهة ثانية مما يؤدي إلى ضياع بوصلتنا، وإلى تحويل قضايانا الكبرى إلى مواسم للثرثرة التي لا تؤدي إلى نتيجة.
كثيرة هي حالات ضياع بوصلتنا في القضايا الكبرى جراء عدم جديتنا في التعامل معها، وهي الجدية التي أدى غيابها إلى تشجيع الكثيرين على التعامل مع القضايا الكبرى بأسلوب الثرثرة وبغير اختصاص، بل وبغير الدرجة الدنيا من المعرفة، مما جعل صوت وجهد أصحاب الاختصاص يضيع وسط صخب المتطاولين، الذين يسعون إلى تعويض سطحيتهم وفقرهم المعرفي بالصوت العالي، وبالحركات الاستعراضية، وبالإكثار من الثرثرة التي تفتقر إلى المضمون، وهي ثرثرة يختلط معها الحابل بالنابل، مما يولد لدى المستمع مللاً فيعرض عن الاستماع أعراضاً يضيع معه الحق.
مناسبة هذا الحديث، هو تداعيات قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة "لإسرائيل"، فكما هو متوقع فقد حدثت ردة فعل عنيفة في كل مكان من أرض الأمة ضد القرار،وهي ردة الفعل التي أعادت القدس إلى صدارة الاهتمام، ونسفت كل محاولات تغيب قضيتها عن المشهد وهذا أمر صحي، لولا سقوطنا مرة أخرى في مرض القضايا الكبرى، وعدم الاعتراف بأهمية الاختصاص، ومن ثم العمل بلا خطة محددة وواضحة، لذلك ظل معظم ما سمعناه عن القدس مجرد ثرثرة وفض مجالس، وهي حقيقة تصب في مصلحة رهان عدونا على الوقت، ومعرفته بأن ردود أفعالنا آنية، سرعان ما تتلاشى أو تغرق في محيطات الثرثرة والكلام الممجوج، أوإطلاق الشعارات دون الالتزام بمضامينها من قبل مطلقيها.
باختصار شديد لقد حولنا ردة الفعل الغاضبة لجماهير الأمة، ضد قرار ترامب إلى موسم ثرثرة حول القدس، وذلك بسبب غياب المؤسسات الجادة والراسخة التي تمتلك رؤيا استراتيجية للقضايا التي تتصدى لمعالجتها، وكذلك غياب القيادات الرصينة التي تمتلك مشروعاً لتعبئة الجماهير وحشد قواها من أجل القضايا المركزية، وهكذا أصاب قضية القدس في الأسابيع الأخيرة ما أصاب قضية محاربة التطرف والإرهاب وغيرها من القضايا الكبرى من عورات، فقد صارت قضية القدس مناسبة للكثير من الجهات لتنظيم أنشطة لا هدف لها إلا تسجيل الحضور الإعلامي لهذه الجهات، وإضافة فقرة إلى تقريرها السنوي، وكفى الله المؤمنين شر القتال، فقد غابت المتابعة مثلما غابت قبلها الرؤيا لما يجب أن يكون عليه العمل من أجل القدس.
والقدس تحتاج إلى تحريض الأجيال على التمسك بهوية القدس الحضارية كمدينة للتنوع،في زمن صار تذويب الهوية الحضارية للأمة الشغل الشاغل للكثير حتى من الناطقين بلغتها. وصار إقصاء الآخر عقيدة عند بعض المحسوبين على الأمة.
القدس تحتاج إلى تعظيم المخزون المعرفي عنها وبها، بعد أن جرى تغيبها من فضاءات التعليم وفضاءات الثقافة والمعرفة في بلادنا..
القدس تحتاج إلى ذلك كله، وتحتاج قبله إلى إخراجها من مواسم الثرثرة إلى فضاءات العمل الجاد من أجل استعادتها.
Bilal.tall@yahoo.com