ما لم تستطع ان تفعله السياسة، تنهض به “بوستات” تتمدد على وسائل التواصل الاجتماعي في المجال الافتراضي، وما نعجز عن تنفيذه نكثر من الحديث عنه، ونقتله بالكلام، وهذه - بالطبع - سمة كثير من المجتمعات التي تعودت على الهروب من العمل الى الكسل، ومن الواقع الى المجهول، ومن محاسبة الذات الى ابتداع الذرائع وتعليقها على الآخرين، ومن الانجاز الى تمجيد ما يمكن ان ينجز، ومن مناقشة السياسات الى “الثرثرة” وملاحقة اخبار الساسة.
حالة الرتابة تذكرني دائما بالنهاية: منذ ان يحتضر الانسان وحتى تنتهي ايام العزاء، تتكرر فصول الرتابة وطقوسها، منذ ان يبدأ الخريف وحتى تهطل اول قطرة مطر، تلبد الاجواء بالرتابة وتنعكس على نفسية الناس وسلوكهم، الرتابة - ايضا - تذكرني بالحرارة المصحوبة بالرطوبة، حالة من اللزوجة الكريهة، يعرفها الذين يقطنون في البلاد ذات المناخ الاستوائي والقريبون من البحار الدافئة، وتذكرني - ايضا - بالجمود والكسل والنعاس والأرق، حالة من الهروب الى نوم غير ممكن، ويقظة مزعجة، وانتظار مشوب بالقلق.. الرتابة تقتل ببطء، وتستهزىء بشماتة، وتتحالف مع الفراغ.
هل تغول الاعلام على السياسة؟ كلا، ولكن يبدو ان الفراغ الذي تركه غياب الفعل السياسي المؤثر وجد من يملؤه، لا تسأل - بالطبع - كيف؟ فقد تابعنا على امتداد الشهور الماضية فصولا مدهشة من السجالات والنقاشات التي تتحدث عن كل شيء، ولا نفهم منها اي شيء، وفصولا اخرى من التحليلات والتنبؤات التي تفوق اصحابها على قراء الكف والفنجان، وكاد بعضنا ان يتحول - فعلا - الى كتابة الابراج السياسية او مطالعة ما ينشر في صفحات حظك اليوم - ولكن بنكهة سياسية هذه المرّة.
هل سقطنا فعلا في امتحان السياسة؟ هل آثرنا الهروب منها الى ممارسة نوع من الثرثرة على سطوحها المشرعة على المجهول؟ هل تحولت الصحافة - بأنواعها - الى حزب كبير بعد ان جفت ينابيع الحياة الحزينة او اوشكت على الجفاف؟ هل استمرأنا فعلا - تحت طلب والحاح المستمعين - تقديم ما يناسب من مواويل سياسية لكسر ما يشعرون به من رتابة او ملل؟
فيما مضى كنا نشكو من استقالة الناس من السياسة وعزوفهم عنها، لكننا اليوم - للاسف - نشعر بأن السياسة استقالت من نفسها، وبأن الفعل السياسي الذي كان يشدنا إليه اصبح على الهامش بانتظار من يتعرف عليه، او هو - ان شئت الدقة - مجرد طلاء نزين به جدران نقاشاتنا وحواراتنا التي أصبحت هي الاخرى تخشى من انفلونزا الشتاء.. تصوّر كيف انتقلت هذه العدوى من مدارسنا الى صالوناتنا السياسية.. ومن طلبتنا على مقاعد الدرس الى نخبنا في مواقع التنظير.
ماذا يطلب المستمعون هذه الايام؟ تحليلات سياسية عن التغيير الذي يقال بأنه قادم، مزيدا من زوايا حظك اليوم وما تخبئه الابراج للطامحين في مواقع جديدة، أخبارا عاجلة عن مشاجرات خلّفت وراءها قتلى وجرحى، وجاهات تعد بالصلح القريب وشرب ما يلزم من فناجين القهوة.
هل نحن سعيدون حقا بافتتاح بازار الكلام؟ ولم لا، حين ينهض احدنا من النوم يشعر بحاجة لمزيد من الاسترخاء، نطابق من الثرثرة وفنجان قهوة سادة، بمشاجرة في الشارع يتفرج عليها ويقضي يومه وهو يفكر فيها او يتحدث عنها لزملائه في العمل، لحالة من السكون التي تعينه على الهروب من ضجيج المدن، والاولاد وهموم الدنيا ومفاجآتها.
هل كثير على السياسة ان تكون مثلنا؟ ان تستريح قليلا وتمارس هواية حل الكلمات المتقاطعة، ان تلعب - كما كنا نفعل ونحن صغار - لعبة الطماية، ان تهرب الى الحقول البعيدة لتخلو مع نفسها في زمن تراجعت فيه فرص الخلوات، ان تأخذ اجازة للاستجمام او - ان تعذر ذلك - حماما دافئا لتستعيد بعده بعض النشاط؟
ليس كثيرا ابدا... ولكننا تعبنا من ضجيج الفراغ.
الدستور