وأشار إلى أنه يمكن رؤية الخطاب حول الإدماج والإقصاء الإثني/العرقي كجزء من الخطاب المنتشر في مناطق مختلفة في أنحاء العالم، ومن ثم النظر في "التعددية الثقافية" المحلية في أميركا وارتباطاتها بالتنوع العالمي. علاوة على ذلك، فإن الهجرة إلى أميركا وغيرها من المجتمعات الغربية، والسياسات الجديدة لإدارة ترمب تستتبع تفاعلات معقدة بين الهويات القومية وعبر القومية؛ لذلك ترتكز عملية إعادة تشكيل حقل الدراسات الأميركية من داخل العالم العربي على ديناميات التصورات المتبادلة مع التأكيد على إعادة تكوين صورة العرب و المسلمين في الفضاء العام الأميركية استجابة للحاجات المعاصره لتغيير أو تعزيز فهم القومية الأميركية والتعريف الجمعي للذات.
الدكتور عزمي بشارة: "الدراسات الأميركية" لم تأخذ مكانتها المستحقة في أجندة البحث العربية
شمل برنامج الجلسة الافتتاحية للمؤتمر محاضرة للدكتور عزمي بشارة رئيس مجلس الأمناء في معهد الدوحة للدراسات العليا، والمدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "الحضور الطاغي لأميركا وغياب الدراسات الأميركية "، ألقاها نيابة عنه الدكتور ياسر سليمان معالي رئيس المعهد بالوكالة.
أكد الدكتور عزمي بشارة أنه على الرغم من سيطرة الولايات المتحدة على المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي في منطقتنا العربية، فإن الدراسات الأميركية لم تأخذ مكانتها المستحقة في أجندة البحث العربية. وقال إن ما يثيره هذا الحضور الأميركي الطاغي من هواجس وردود أفعال متضاربة إلى درجة من الاستقطاب لا يبقى معها حيز لتحليل هادئ للسياسة الخارجية الأميركية مبني على فهم نقدي للسياسات الداخلية للولايات المتحدة ذاتها.
واستعرض الدكتور عزمي بعض محطات نشأة "الدراسات الأميركية" التي أخذت مكانتها في الدراسات الأكاديمية في سنوات الثلاثينات من القرن العشرين مع إدخال "الحضارة الأميركية" ضمن مقررات جامعة هارفرد. ولكنها نشأت قبل ذلك في كتابات باحثين ودارسين عبر كتب نشروها، وأقدم ما يمكن عده ضمن هذه الدراسات كتاب "الديمقراطية في أميركا" لأليكسيس دو توكفيل في منتصف القرن التاسع عشر. وعرف هذا التخصص اتساعا واهتماما أكبر بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل الحرب الباردة.
ويرى الدكتور عزمي أن الولايات المتحدة تبقى - باستعارة المفاهيم الماركسية – الدولة صاحبة أهم "أدوات الإنتاج" وأكثرها تطورا ليس لإنتاج السلع والتكنولوجيا فحسب، ولكن أيضا إنتاج الصور والمعاني والرموز الثقافية، ولفهم هذا "الاستحواذ" الأميركي على نحو نقدي تحليلي، وجب علينا البحث عن علاقات القوة والهيمنة السياسية والاقتصادية والأيديولوجية التي تقف وراءه. كما أن الانقسام "الثقافي-السياسي" الذي رافق فوز دونالد ترامب بالرئاسة، يشير إلى أهمية دراسة الولايات المتحدة من الداخل، في نطاق الثقافة السياسية الأميركية والصراعات الثقافية الداخلية التي هي أهم للدراسة مما يدعى "صدام الحضارات".
وعن الاستقطاب الذي حدث في العالم العربي والعالم الثالث عموما تجاه الهيمنة الأميركية وحضورها الطاغي، يشير الدكتور عزمي إلى أن القوميين في العالم العربي مثلا وتركيا وإيران تعاملوا بنوع من الإيجابية في دراسة الولايات المتحدة، فرحبوا بنوع من الإعجاب بالمبادئ الأميركية بوصفها "الدولة الحرة" أو دولة الحريات. في المقابل، ترى النظرة السلبية تجاه الولايات المتحدة، أن ثمة أمبريالية أميركية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتحل محل الاستعمار الفرنسي والإنكليزي في أفريقيا وآسيا. وأنتج هذا التوجه الذي مزج بين الشعور الوطني وأجواء الحرب الباردة أدبيات "مضادة لأميركا"، وقد "تأسلم" الخطاب الكاره لأميركا مع صعود الحركات الإسلامية في سبعينيات القرن العشرين، وبلغ ذروته مع شيطنة الثورة الإيرانية لأميركا. وشكل تورط الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان بعد تفجريات أيلول /سبتمبر 2001 وكذا دورها في الثورات العربية لاحقا علامات جديدة في إذكاء خطاب الكراهية ضدها.
وأشار الدكتور عزمي إلى موجة داخلية جديدة من الدراسات الأميركية المعارضة لتوجهات الولايات المتحدة، والتي يمثلها على الخصوص ناعوم تشومسكي وغور فيدال، وريشارد فولك وستانلي هوفمان وغيرهم. وقد أخذت بعض الدراسات الأميركية في المنطقة العربية هؤلاء كمرجعيات في نقد جديد للنموذج الأميركي، وقد استخدم الإسلاميون أفكار هؤلاء لشحن الرأي العام أكثر ضد أميركا على اعتبار أن مصداقية هؤلاء الباحثين الأميركيين أكبر.
وضمن اتجاهات "الدراسات الأميركية" العربية، أشار الدكتور عزمي إلى الدراسات التي أبرزت حقيقة المصالح الاقتصادية والهيمنة التي تحكم السياسة الخارجية الأميركية وخوضها حروبا في حين تغطيها بادعاءات نشر الديمقراطية والحرية، منبها إلى الانزلاق الذي بلغه بعض أصحاب هذا التوجه بعد أن أصبحت أي رغبة داخلية لشعوب المنطقة العربية في إحداث التغيير والتوق إلى الديمقراطية والحرية، وتحركها باتجاه تحقيق ذلك، يوسم على الفور بأنه جزء من "المؤامرة الأميركية".
وقال المتحدث إن الدارس العربي للولايات المتحدة الأميركية كثيرا ما يسقط عوامل مهمة جدا في تحليله من قبيل "نظرة الأميركي إلى نفسه"، كيف تعتقد بعض المجموعات في الولايات المتحدة أن بلادهم هي حاملة "رسالة للإنسانية".
وأوضح المتحدث أن "الدراسات الأميركية" بأدبياتها وتراثها إنما تحيل إلى مجال بحثي متعدد التخصصات تشمل علم الاجتماع والدراسات الثقافية والأنثروبولوجيا وعلم السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والدراسات الإعلامية وغيرها. ولكنه ينبه إلى أن الغرب لم يشأ أن يصنف "الدراسات الأميركية" ضمن توجه "دراسات المناطق" التي أنشأها الغرب نفسه لدراسة المجتمعات الأخرى وبهدف التحكم والهيمنة، ولكنه يرفض تطبيق هذا المسعى على المجتمعات الغربية مدعيا أن الدراسات التي تتناولها إنما هي دراسات مؤسسة لذلك "العلم الإنساني العالمي"، متجاهلا أن كل هذه الدراسات التي أسست لعلم الاجتماع وعلم السياسة والأنثروبولوجيا والاقتصاد بوصفها علومًا وليدة سياقاتها المجتمعية وليس هناك من دليل على إمكانية أن تنطبق بنظرياتها ومناهجها على مجتمعات أخرى غير التي ولدت فيها. وهكذا تصف "الدراسات الأميركية" مسعاها بأنها تبحث داخليا (في الولايات المتحدة) عن القواسم المشتركة المكونة للأمة الأميركية ولنمط العيش الأميركي، فيما توسعت إلى خارج الولايات المتحدة من أجل تقديم هذا النموذج الأميركي للحياة في مقابل النموذج الذي كانت تقدمه الكتلة الشيوعية خلال فترة الحرب الباردة.
وستتواصل أعمال المؤتمر غدا الثلاثاء بجلسة بعنوان :المخيالات السياسية: قضايا الاستشراق، وأخرى بعنوان قوة الولايات المتحدة: من أين وإلى أين".