القرار المشؤوم للرئيس الأمريكي ترامب باعتبار القدس عاصمة للاحتلال، ونقل سفارة بلاده إليها، هل يعيد للقدس دورها الحقيقي في تاريخ أمتنا؟ فقد كان وقوع القدس وعلى مدار تاريخنا في أيدي الاحتلال إشعاراً بأن الأمة تعيش أرذل مراحل تاريخها، وهي المراحل التي طالما شكل احتلال القدس نقطة التحول التاريخية للخروج منها، لأن القدس كانت على مدار تاريخنا الحضاري المدينة التي تجمع الأمة، وتعيد توحيدها، وشحذ همم أبنائها، ليخرجوا من حالة الهوان والهزيمة إلى حالة العزة والنصر، وكل من يقرأ تاريخ الأمة قراءة مبصرة سيكتشف هذه الحقيقة.
بعض ملامح هذا الدور التوحيدي للقدس برزت في الأيام الأخيرة، التي تلت القرار الأسود للرئيس الأمريكي الأسوء، فقد نزلت إلى الشوارع تعلن رفضها للقرار كل مكونات الأمة، على اختلاف أديانها ومذاهبها وألوانها وأجناسها، فكل واحد من أبناء هذه الأمة يعتقد أن له في القدس نصيب، وهي بذلك تختلف عن مكة، وعن النجف وعن كربلاء، وعن قم، فالقدس للمسلم وللمسيحي وللسني والشيعي، عربياً كان هذا الشيعي أم أعجمي، فكلاهما يتفق على قدسية القدس ورمزيتها، وليس بينهما ذلك الصراع الخفي على أولوية القيادة لقم أم للنجف.
وحتى يستمر هذا الدور الذي برزت بعض ملامحه في الأيام الأخيرة، في ردود فعل أبناء الأمة على القرار البشع للرئيس "الأبشع"، وحتى لا يكسب ترامب وأنصاره ومحاسبيه وأزلامه وغلمانه الرهان، بأن ما نشهده في شوارع الأمة من تعبير عن الغضب للقدس، ليس أكثر من ردة فعل آنية، و زوبعة في فنجان، لن تستمر أكثر من أيام معدودة، فلابد من بروز طائفة من أبناء الأمة رجالاً ونساءً لإبقاء جذوة الغضب للقدس مشتعلة في نفوس أبناء الأمة وعلى أرضها، في عمل فكري تربوي نهضوي حقيقي يقود في النهاية إلى تحرير القدس، فهذا هو الرد العملي على غطرسة ترامب، وكل من يحتمي بترامب ويختبئ تحت عبائته، وهذا هو الطريق لتحرير فلسطين وعاصمتها القدس.
البرهان على هذا الذي نقوله، تقدمه لنا تجربة جيل صلاح الدين فهي خير مثال وتجربة عملية يمكننا إحيائها، للتشابه الكبير الذي يصل إلى حد التطابق بين المرحلة التي نعيشها ومرحلة حروب الفرنجة وسقوط القدس بأيديهم، ومن قراءة هذه التجربة سنكتشف أن الذي صنع النصر الحقيقي على الفرنجة وحرر القدس ليس صلاح الدين، وإن كان هو قائده النهائي، فقد سبق دخول صلاح الدين إلى القدس محرراً، عملاً تربوياً وفكرياً دؤوباً قام به علماء الأمة، كانت نتيجته إعادة تأهيل الأمة وإعادة بناء قدرتها على صناعة النصر، والعودة شريكاً فاعلاً في دورة التدافع الحضاري، وقد كانت القدس هي المدينة المحركة لذلك كله، بعد أن كانت المدينة الرمز الموحدة للأمة وتياراتها الرئيسية.
وحتى يتحقق هذا الذي نرنوا إليه من نهوض حضاري يقود إلى تحرير القدس، فعلينا وعبر موجة الغضب التي تكتسح صدورنا أن نتذكر محنة القدس الحقيقية، فليست محنة القدس في الصفة السياسية والدبلوماسية التي يسعى الظلمة التي صبغها بها، عاصمة مزعومة لدولة مزعومة، فهذه ليست سوى إفراز للمحنة الحقيقية والأساسية للقدس، وهي محنة الاحتلال، ومحنة التقسيم إلى قدسين غربية وشرقية، وهذا فخ لا يجوز أن نقع فيه، كما وقعنا في الكثير من الأفخاخ الصهيونية عبر تاريخ صراعنا الطويل معهم على أرض فلسطين، منذ وعد بلفور حتى يوم الناس هذا، الذي صار فيه بعض غلمان السياسية يتحدثون نيابة عن الأمة كلها، وعن أبناء فلسطين على وجه الخصوص، فيتنازلون عن أجزاء من أرض فلسطين منها القدس، ويقترحون عاصمة لفلسطين غير القدس، وقد نسي هؤلاء أن الأوطان لا تباع ولا تشترى ابتداء، ونسوا ماهو أهم من ذلك، نعني قدسية فلسطين كل فلسطين، وأنها وقف إسلامي للأمة كلها، وأنه ليس من حق أحد أن يتنازل عن شيء من هذا الوقف. ولعل هذه واحدة من أسباب كثيرة لهذا الغضب الذي يعم الأمة من أقصاها إلى أقصاها انتصاراً للقدس، وهو الغضب الذي لابد من توظيفه توظيفاً صحيحاً، للتأسيس لحالة النهوض الحضاري التي تحرر فلسطين، وتخرج القدس من أسرها.
الرأي