انتخابات نواب الأردن 2024 اقتصاديات أخبار الأردن جامعات دوليات برلمانيات وفيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات مقالات مختارة مناسبات شهادة جاهات واعراس الموقف مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة

ربيحات يستذكر وصفي التل: اكثر من 20 رئيس وزراء تعاقبوا على كرسيه

مدار الساعة,مقالات
مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/29 الساعة 10:54
حجم الخط

مدار الساعة - كتب الوزير الأسبق والأكاديمي الدكتور صبري ربيحات:

ربما كنت في الخامسة من عمري يوم استعدت قريتنا "عيمة " في محافظة الطفيلة لاستقبال أول وأهم شخصية سياسية تزورها.. لقد كانت زيارة وصفي التل لقضاء الطفيلة (آنذاك) في مطلع الستينيات..

اذكر يومها ان النساء اخرجن كل انواع السجاد البلدي والاقمشة الملونة ونشرنها على اسطح بيوت القرية المتراصة لتطفئ الوانها كآبة لون الطين الموحد لجدران بيوت القرية ولتعبر عيمة عن بهجتها بهذه الزيارة النادرة.

حتى اليوم ما زلت اتذكر اشكال السيارات التي شملها الموكب ولباس وصفي وطلته وكيف تحلق الاهالي حوله ونحن نطل ومعنا النساء من على اسطح المنازل والدهشة تملأ فضاء القرية التي لم تشهد مثل ذلك اليوم.

وصفي، الذي تعرَّف، من خلال زياراته لمنزل العم ابو ملحم التل في جبل التاج المجاور لحي الطفايلة بعمان، على معاناة القرية ومشكلة الهجرة الواسعة التي كانت في اوجها بسبب توالي سنوات القحط، وعد يومها بأن تتحول عيمة الى قرية نموذجية وأن يعود الأهالي من الحي (حي الطفايلة) الى عيمة مرة أخرى بعد تحسين أحوالها.

لم أدرك يومها كل التفاصيل التي تحدث بها لكن الوعد استوطن في وجداني ووجدان الاهالي وبقينا نذكره ونتذاكر في تفصيلاته عاما بعد عام.

يومها احببت وصفي اكثر من كل الذين عرفتهم من الساسة فقد كان الاقرب لي ولاهلي حتى ذلك التاريخ. وما هي إلا سنوات حتى سمعنا بخبر رحيله فهمنا على وجوهنا وبكيناه كمن يبكي اباه او اخاه...

بعدها ظل رسمه محفورا في صدورنا ومقتطفات مسيرته نبراسا نهتدي بها في الحكم على اداء من يتشرفون بحمل امانة المسؤولية.

المكانة التي يحتلها وصفي التل في قلوب ووجدان الأردنيين ظاهرة يصعب ان تجد لها مثيلا في تاريخ الادارة الاردنية كما يصعب الوصول الى نظرية قادرة على تفسير تنامي الاعجاب والتقدير لمسيرة الرجل الذي اعتبر النموذج الاعلى والاهم للشخصية السياسية التي يتطلع الشارع الاردني لوجودها على كرسي الحكم اليوم بالرغم من مرور اكثر من 46 عاما على رحيلها.

فقد اسهم التقادم في تنامي اعداد وفئات من آمنوا بمنهج الرجل ومسيرته وانجازاته لتصبح نموذجا يعمل الجميع على استدعائه للبرهنة على قدرة البلاد والثقافة والمؤسسات الاردنية على انتاج حالات شبيهة قادرة على القيادة بجرأة وشجاعة واخلاص وحزم.

ومما يثير دهشة المراقب ان اكثر من ثلثي من يتحدثون عن وصفي اليوم لم يقابلوه او يعاصروه لكنهم على صلة وثيقة بمسيرته ولا تنقصهم القصص ولا الشواهد ليدللوا على نبل قيمه وسداد رأيه وملاءمة سياساته وحسن ادارته وزهده فيما يتهافت عليه اصحاب الدولة والمعالي.

الاردنيون اليوم وفي كل عام وربما كل يوم يتأسون على رحيل رئيس الوزراء الذي تولى رئاسة الحكومة الاردنية في اخطر المراحل التي عاشتها البلاد واكثرها تهديدا لوجودها ومسيرتها.

لقد كان وصفي مزارعا وجنديا وفيلسوفا قبل ان يكون رئيساً للوزراء وكان مناضلاً في صفوف المقاومة الفلسطينية الى جانب قاسم الريماوي وعشرات المناضلين الذين نذروا ارواحهم دفاعاً عن فلسطين قبل ان يكون الشهيد الذي قضى على ايدي من ظنوا انهم يخدمون القضية باغتياله.

لم يكن وصفي يعبر عن قوميته ووطنيته بشعارات يبدلها كلما اقتضت الحال بل كان مناضلا يحمل بندقيته الى جانب الرفاق في جيش الإنقاذ وطوريته الى جانب الاف الطلبة الذين انخرطوا في معسكرات الحسين لتخضير الاردن وزيادة رقعته الزراعية وكان جنديا الى جانب العساكر الذين تململوا من طول الانتظار ومع قادة السرايا والتشكيلات لبناء روح معنوية قوامها الشجاعة والحق وحماية الوطن والمقدسات فكان مع العاملين في الاذاعة التي شدت الاردنيين لتوحد مشاعرهم وتوصلهم بمؤسساتهم فما ان تولى دفة الحكومة حتى طاف البلاد قرية قرية وبلدة بلدة فما من سهل الا ووقف به وما من جبل الا واطل من اعلاه ليستنهض روح العمل والعطاء والانجاز.

في شرق البلاد وغربها كان وصفي الاحرص على نظافة اليد وصدق المواطنة والنزاهة في اعلى تجلياتها فاطلق حملات التطهير للادارة العامة وخلص الاجهزة من الفاسدين ولم يهادن من بنوا ثرواتهم من اعمال الرشوة والاختلاس ودعا الى ترشيق الادارة والحد من الترهل.

لقد اشتبك ابو مصطفى مع هموم المزارع الاردني واطل على مهام الموظف والجندي فكان قريباً من اوجاع الناس يدركها بقلبه قبل ان تعرض عليه فهو ابن هذا الشعب يملك الجنسية الثقافية الاردنية ويجسدها فقد جمع في مظهره وطلته ومهابته خشونة البداوة وحذر الفلاحين وفروسية اخواله واحساس والده الذي ظل يذكرنا باوجاع وهموم المستضعفين.

اكثر من عشرين رئيس وزراء تعاقبوا على كرسيه منذ رحيله حاولوا جميعا ان يتركوا اثرا على روح ووجدان الاردنيين لكن شبح وصفي لا يزال يحتل الفضاء ويجثم على ساحة اللاوعي الاردني يرفض ان يترك مساحة لغيره فلا شيء يشبه السمرة التي لوحت جبينه ولا حدة كحدة ناظريك فتضاريسك مثل تضاريس الارض التي احبتك لانك اخلصت لها واعطيت لاهلك الحب والامن ومفتاح الامل....قد نكون خذلناك وقد نكون احترمنا موضعك في التاريخ فاثرنا لا نقترب منك ....

الرحمة لروحك الطاهرة ....والسلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا.

مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/29 الساعة 10:54