مرة أخرى نحي الذكرى السنوية لاستشهاد وصفي التل, ويرتفع صخبنا تمجيداً لفظياً لوصفي, واستذكاراً لمآثره, ومرة أخرى يثور السؤال: ما قيمة كل هذه المظاهر الاحتفالية بالشهيد, والتغني بمآثره, إن لم تقترن أقوالنا عن هذه المآثر بأفعال تجسدها، سيراً على دربه ووفاءً له وتأسيًا به؟ فميزة وصفي التل الرئيسة أنه كان رجلاً يقرن القول بالفعل، وتلك ميزة أصحاب المشاريع الكبرى في تاريخ شعوبهم, أنهم يؤمنون بأن الكلمة تأخذ قيمتها من تحولها إلى واقع يعيشه الناس. وهو بالضبط ما فعله وصفي التل الذي نكثر الحديث عنه، والتغني به، ولكننا نوغل في الوقت عينه في خيانته, عندما نخون مشروعه ولا نسعى لتحقيقه، بعد أن دفع صاحب المشروع حياته فداء لنا.
خيانتنا للمشاريع ليست مأساة وصفي التل وحده. لكنها مآساة كل الرواد من البناة الحقيقين للدولة الأردنية المعاصرة, فهؤلاء جميعاً لم يجدوا من بعدهم من يكمل مسيرتهم, أو حتى يحافظ على إرثهم ونهجهم, حتى من أصلابهم ومن داخل بيوتهم, بل على العكس من ذلك فكما أشرت في مقال سابق فإن أبناء الكثير من القيادات الإسلامية أصبحوا جزءاً من المشروع اللاديني في المنطقة, كما أن أبناء الكثير من القيادات القومية واليسارية, صاروا من جنود ومرتزقة المشروع الإمبريالي في المنطقة, العاملين على ترسيخ مفاهيمه واستعماره الثقافي في بلادنا,وكلاهما أعني أبناء الإسلاميين وأبناء القوميين واليساريين لم يعودا يكترثون بخيانتهم لإرث آبائهم, فما بالك بالسعي لاستكمال مشاريع آبائهم.
ومثل خيانة الأبناء لإرث الآباء, بل وأشد منها كانت خيانة الإخوان والرفاق لسيرة ومسيرة الأوائل من البناة, وهي الخيانة التي أخذت أشكالاً مختلفة ابتداءً من تعديل المواثيق مروراً بتغير التحالفات والتوجهات. وصولاً إلى دفن مشاريع الحرية والاستقلال.
كثيرة هي أسباب خيانة الأجيال اللاحقة من أبناء أمتنا لمشاريع وتطلعات رجال النهضة والاستقلال والتحرر الوطني, لعل في طليعتها غياب التربية العقدية سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى الحزب والإطار السياسي, فكانت النتيجة هذا القفر اليباب الذي وصلت إليه حياتنا السياسية, التي لم تعد تمتلك في أفضل الأحوال إلا حناجر مبحوحة, يتغنى أصحابها بإرث بعض الرموز الوطنية أمثال وصفي التل, الذي أجزم بأن قتلته الحقيقين ليسوا هم أولئك الذين أطلقوا رصاص الغدر عليه, لكنهم أولئك الذين تخلوا عن مشروعه ممن يدعون أنهم على دربه سائرون.
فأين كل هؤلاء الذين يتغنون بوصفي, وبالسير على منهجه, من علاقة وصفي بالأرض؟ ألم تتحول أرضنا بعد وصفي إلى سلعة نبيعها لمن يدفع أكثر, بصرف النظر على جنسه ولونه وانتمائه السياسي.
وأين كل هؤلاء الذين يزعمون أنهم لوصفي محبون من علاقة وصفي بالزراعة؟ ألم تكن أهم وصايا وصفي التمسك بالأرض وزراعتها وتعظيم إنتاجها, وقد مارس ذلك بنفسه فكان يغادر مكتبه في رئاسة الوزراء ليحرث الأرض ويزرعها, قبل أن يظلنا زمن يتجرأ فيه أناس على القول بأننا لا يجب أن نزرع أرضنا ثم لا يجدون من يخرسهم؟
وأين كل هؤلاء الذين يتغنون بوصفي من تلبية دعوته لإقامة مجتمع قرطاج العسكري المنتج, وقد صار مجتمعنا رخواً هشاً مخترقاً مستهلكاً, لا يأكل مما يزرع ولا يلبس مما يصنع؟
وأين كل هؤلاء الذين يهتفون لوصفي, من رؤية وصفي للصراع في فلسطين, وضرورة إبقاء اليد على الزناد للدفاع عن الأردن, كقاعدة لتحرير فلسطين, وقد أظلنا زمان صار فيه اليهود يناقشون شرعية الأردن وشرعية نظامه؟
أين....أين... وأين؟ أسئلة كثيرة تثور في ذهن من يتابع كل هذا الزخم الذي تتخم به مواقع التواصل الاجتماعي, وقاعات المنتديات والجمعيات ومن أحاديث عن وصفي, الذي خلدته الرصاصات التي أطلقت على جسده, وخذله من يزعمون أنهم محبيه, عندما تخلوا عن مشروعه, أي تخلوا عن القيمة الحقيقية لوصفي التل.
إن قيمة الشهيد وصفي التل الحقيقية, أنه كان يمتلك مشروعًا متكاملاً برؤية واضحة، هو مشروع الدولة القوية، العادلة، المنتجة، المكتفية، المقاومة، من خلال سعيه إلى بناء مجتمع قرطاجنة في الأردن ليكون مجتمعًا مقاومًا مكتفيًا، لذلك فإن الوفاء الحقيقي لوصفي يكون بإحياء مشروعه, وبالعمل على تنفيذ هذا المشروع وليس بالبكاء على قبره والثرثرة عن مآثره.
الرأي