ركبت القارب وشقيقي المتلهف للماء، وفور أن أدار الرجل محركه المجنون، راح قاربه يشق الماء في حركة استدعت إلى ذهني فورا مشهد الحراثة، ولكننا هنا نحرث البحر، وكم كانت مجدية، وممتعة ومذهلة: حراثة البحر، حتى وإن لم نملأه بالبذور، فقد ملأنا المشهد بالإثارة والمتعة والدهشة، وجنينا ثمارا مذهلة من الفرح الطفولي، لم تكن لتخطر على بالي!
نحن نقول لمن يقوم بفعل عبثي أنه «يحرث البحر» لأكتشف عبث هذا الاعتقاد، وحتى سخفه، فالبحر معطاء بلا حدود، و»تربته» الخصبة قابلة للزراعة فعلا، وثمارها مستحقة الدفع فورا، بلا انتظار دورة حياة البذور الاعتيادية، إنه درس كبير تعلمته في لحظات، قلب في رأسي كثيرا من المسلمات، والمفاهيم المعلبة.. وكذا هي الحياة.. أشياء بسيطة يمكن أن تقوم بها، تحسبها سخيفة، أو عبثية، أو حتى مستحيلة، تعود عليك بنفع كبير، ولو امتدت تجربة «حراثة البحر» إلى كثير مما نعتقد أنه عبثي، لتغير الكثير مما يشكل مصدر تعاسة لنا..
-3-
كنت في مزاج سيء، كمن يساق إلى فعل شيء لا يحبه، ولكن فور أن دار المحرك، قفز من صدري طفل معتقل تحت طبقات سميكة من سنين الجد والهم والانشغال بالمشكلات العامة، وهموم السياسة والكتابة والعمل والوظيفة، ومليون مسألة تنغص عليك حياتك، ثم بدا هذا الطفل يعبث بالماء، ويرقب عملية الحراثة باستمتاع وشوق كبير للمزيد، وادركت حينها، كم يفوتنا من أوقات جميلة، وأفعال بريئة، نترفع عنها، وهي مصدر ثري للفرح، وكسر وقارنا المصطنع، فثمة طفل عابث شقي في داخل كل منا، كلما قمعناه أكثر، كنا أكثر تعاسة، وكلما أفرجنا عنه، وأطلقنا له العنان، كنا أكثر سعادة وإنسانية!
-4-