مدار الساعة - بسام بدارين - الجدل المثار في الأردن بعنوان «عاصمة جديدة» للمملكة – تَبيّن لاحقاً أنها ليست عاصمة – يصلح كنموذج لاستعراض مستوى «التخبط الرسمي» والحكومي عندما يتعلق الأمر بالبحث عن أي مبادرات من أي نوع لإرضاء الشارع عبر الإيحاء بالحركة وبوجود مشروعات يمكن أن تنجزها الحكومة الحالية.
حجم الجدل الذي بدأ أصلاً مع تصريح لرئيس الوزراء الدكتور هاني الملقي فاق أي ملف آخر، خصوصًا أن الشارع بدا شغوفًا لمعرفة أسماء المسؤولين الخمسة الذين قيل إنهم وحدهم يعرفون الحيز الجغرافي المعني بالعاصمة الجديدة. إذ لا توجد أدلة عمليًا على وجود «عاصمة جديدة» في الأردن، وقد ذكرت «القدس العربي» بأن المسألة تتعلق بموقع جديد يوسع من العاصمة نفسها ويتحول إلى مجمع إداري على الطريقة المصرية وهو ما لم يظهر عكسه بعد.
بوضوح شديد نشطت دوائر رئيس الوزراء الدكتور الملقي في اليومين الأخيرين لتوضيح حصول فهم خطأ لرسالة الحكومة في هذا الاتجاه حيث بدأ مسؤولون بارزون التحدث في أوساط المجتمع عن عدم وجود عاصمة جديدة، بل الحديث عن مخطط شمولي لإقامة منطقة استثمارية على أراضي الخزينة، وفي منطقة من المرجح أن لها علاقة بشرق العاصمة عمّان وليس غربها.
لافت جداً للنظر أن الهجوم على وزير الاتصال الناطق الرسمي على اعتبار انه تحدث عن عاصمة جديدة بشروحات لاحقة يتجاهل حقيقة أن رئيس الوزراء شخصياً هو أول من استعمل عبارة «عاصمة جديدة» في التصريح الأول المنقول عنه عبر الإعلام الرسمي. وبطبيعة الحال قدر الملقي أن الحديث عن استلام الحكومة مخططاً شمولياً لتوسيع العاصمة ينطوي على «نبأ سار» للرأي العام يمكن أن تروجه الحكومة وسط الجمهور للإيحاء بأنها تنجز وتعمل وتدعم خيارات استثمارية. لكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، هنا فقد طالت موجة عاتية من السخرية المُرة الشارع عبر وسائط التواصل بطريقة إما تندد بالمشروع الجديد أو تبحث عن أصله وفصله.
ثمة من وَجّه اللوم لبعض الرموز بسبب استعمال مفردة «عاصمة» وفي الواقع الرئيس نفسه هو الذي استعملها قبل أن تستدرك الحكومة لتعلن أن الحديث ليس عن عاصمة إطلاقًا، بل عن مشروع جديد في العاصمة سيسهم في التنمية.
الملقي وعد الرأي العام بتوضيحات وشروحات، لكن الإشاعات كانت قد نهشت المشروع والحكومة معًا لأكثر من أسبوع في الوقت الذي دافع فيه الوزير المومني عن خيارات حكومته وشرح بأن الهدف في النهاية منع الاستغلال ورفع سعر الأراضي قبل أن توضح الحكومة أن المشروع الجديد سيقام على أرض تتبع الخزينة أصلاً.
في كل حال وبعيدًا عن التفاصيل نفسها، ظهرت الحكومة في هذا الموضوع تحديداً متخبطة وبرواية غير موحدة وبقصة يمكن أن تضاف عليها تفاصيل دومًا وتحت إيقاع ضغط الشارع وسخرية المعلقين على شبكة التواصل، وهو مشهد يتكرر على نحو غريب وغامض في الأردن عبر سلسلة من التصريحات غير المفهومة التي تثير الجدل أكثر من ضبط الإيقاع وتصدر حصريًا عن رئيس الوزراء الذي يقول مقربون منه إنه يعود بعد الضجة والإثارة التي تنتجها تصريحات حكومته لتوجيه اللوم إما لوسائل الإعلام التي انحرفت في التغطية وأخفقت في الالتقاط أو للرأي العام الذي فهم الأمور بصورة خطأ وتسرع في الاستنتاجات.
واشتكى الملقي مرات عدة من الفهم الشعبي الخاطئ لما يصدر عنه. لكن مسئولين داخل الحكومة يقولون إنهم يتورطون أحياناً في الفهم الخطأ نفسه وحالهم قد لا يكون أفضل من حال الشعب.
حديث الملقي عن «عاصمة جديدة» تبيّن لاحقاً أنها ليست «عاصمة» ولن تقام في «مكان سرّي» وليست أكثر من مشروع عقاري سبق أن درس وعرض في عهد حكومة سابقة.. هذا الحديث أصبح سياسياً وإعلامياً اليوم بمثابة الدليل الأقوى على مستويات التخبط في الإدارة الحكومية حيث تكثر الاجتهادات وتتزاحم ثم «تتناطح» داخل الطاقم الحكومي الذي يبدو دوما غير منسجم. اشتكت الحكومة سابقًا من عسف الاستنتاج وظلم الاستماع والمتابعة عندما أعلن رئيس الوزراء أن الأردن سيدخل الضوء بعد منتصف عام 2018 في تعليق لا يفهم أحدٌ حتى الآن عن ماذا يتحدث، وقبل ذلك أطلقت حكومة الملقي التي تعمل في ظل ظرف مغرق في الحساسية إقليمياً واقتصادياً وسياسياً وعوداً عدة تبيّن لاحقا أنها غير منطقية أو لا مبرر لها، أو أحياناً لا ينجح الوزراء أنفسهم في شرحها.
من المرجح أن بقية المؤسسات الشريكة في صناعة القرار لا تقوم بواجب إسناد حكومة الملقي وحجم المناطق الفارغة التي تتكرس فيها الأسئلة بلا أجوبة في وجدان الجمهور يزيد على نحو ملموس. فثمة تخبط لا يمكن إنكاره في إدارة ملفات حيوية في ظل حكومة الملقي وثمة غياب للانسجام من الصعب تخيل إدارة الأمور مع بقائه حياً بالمستوى البيروقراطي وكل ذلك تعبر عنه قصة العاصمة الجديدة التي ملأت الدنيا وأشغلت الناس ليتبين أن المسألة تخص مشروعاً عقارياً في نهاية المطاف قد يؤدي لتحسين بيئة التنمية في عمّان، لكن لن يحل أية مشكلة مستعصية في اقتصاد البلد أو حتى اقتصاد العاصمة. (القدس العربي)