لماذا تغيّر الأردنيون من مجتمع البساطة والسماحة، و التراحم والرضا، إلى مجتمع القسوة والتشكيك، والكراهية والانتقام، والسخط على كل شيء؟
أعرف أن هذه أعراض لها جذورها وأسبابها، وأن الإجابة صعبة وتحتاج إلى حفر عميق داخل الذات الأردنية، أعرف، أيضا، أن التحولات التي طرأت على مجتمعنا، خلال العقود الماضية، أفقدته الكثير من سماته الأصيلة، وضربت عصب القيم التي كانت تضبط حركته، وتحمي مناعته، أعرف، ثالثا، أن الظروف الاقتصادية ساهمت في هذا التغيير، وأن ارتفاع معدلات البطالة والفقر، واضطراب حركة الأسواق، أفرزت من الأردنيين أسوأ ما فيهم، حدث ذلك في سياق «ضمور» الطبقة الوسطى، بما تمثله من عامل توازن للمجتمع، ثم بروز طبقة صغيرة، استأثرت بكل شيء، وولدت لدى الناس نزعات التطرف بالسلوك، وبإصدار الأحكام أيضا.
أترك مهمة الاستطراد بالإجابة عن أسئلة (أسرار) هذه التحولات لأساتذة علوم الاجتماع، فهم أدرى مني بما حدث، أشير فقط إلى مسألتين، الأولى أن العلاقة بين الأردنيين والدولة، أقصد إدارات الدولة وقراراتها وسياساتها، تغيرت وتشوهت، يمكن فهم هذا التغيير أو تبريره في سياقات عديدة، لكن الاهم انه كان بمثابة الموجة التي هزّت الشخصية الأردنية، لا أتحدث، فقط، عن روابط الانتماء والثقة، والاعتمادية، والإحساس العام بـ»أُبوة» الدولة، هذه التي كانت تربط الأردنيين بدولتهم، وتعزز علاقاتهم فيما بينهم، وإنما، أيضا، عن بروز «خزانات» جديدة للمظلومية، و «بازارات» لتوزيع الغنائم، وهواجس مفهومة وغير مفهومة، على مستقبل البلد، عززتها انفجارات في العالم والاقليم، وخيبات تراجع في الأداء العام، للمؤسسات والنخب على حد سواء.
أما المسألة الثانية فتتعلق بما حدث داخل المجتمع، حيث برزت مجموعة من «الكتل» المؤثرة (لكي لا أقول النخب ) أحكمت سيطرتها على مزاج الأردنيين وأفكارهم، هذه الكتل توزعت بين البزنس والسياسة، والأيديولوجيا والتفاهة، استخدمت وسائل التواصل بأنواعها، ومصادر التمويل الداخلي والخارجي، هدفها الأساسي العبث بثقافة الأردنيين ووعيهم، وحرف تديّنهم، وتشويه وجدانهم، وزعزعة ثقتهم بأنفسهم، أخشى أن يكون هؤلاء قد وجدوا ما يلزم من داعمين أو متفرجين، و أنهم نجحوا في مهمتهم؛ مهمة صناعة مجتمع الفرجة والكراهية، الذي استغرق بما يصله رسائل مغشوشة، أصبحت، بفعل التراكمات، جزءا من شخصيته.
هذا التغيير الكبير الذي اصاب مجتمعنا، وتغلغل فيه، اختار له دوائر يدور فيها، امتدت بين استمراء الفشل، وترسيخ التخلف، والنظر من ثقب الأخطاء، وإنكار الإنجاز، ورفض الخروج من الأزمات بمصالحة الذات، وهو بالتأكيد لم يحدث صدفة أبدا، فوراءه فاعلون، معروفون ومجهولون، ولهم اهداف عنوانها «السيطرة «على عقول الأردنيين وقلوبهم، ثم تطويعهم «لقابليات» جديدة ( لا تسأل ما هي؟)، لا تتناسب مع تاريخهم وطبيعتهم، ولا مع مصالحهم وأمنهم واستقرارهم، ومن آسف أن الكثيرين منا وقعوا في «الفخ»، لدرجة أنهم أصبحوا جزءا من منظومة، عملت وما تزال، لزعزعة ثقة الأردنيين بأنفسهم أولا، وبدولتهم ثانيا، وبعلاقاتهم مع بعضهم بعضا.
الآن، لابد أن يصحو الأردنيون من هذا الكابوس، كيف؟ لا أعرف بالضبط، المهم أن يفتحوا أعينهم وعقولهم على ما حدث في محيطنا أولا، وفي بلادنا أيضا، ثم أن يسألوا أنفسهم: ماذا نريد، وكيف يمكن أن ننهض ونتقدم ؟ هل يمكن أن يحصل ذلك، ونحن مازلنا مصرين على البقاء في حالة « الحداد العام»، و توزيع الاتهامات وإنكار كل شيء، دون أن نفعل أي شيء حقيقي لإصلاح الأخطاء التي ارتكبناها، او ارتكبها غيرنا بحقنا، ودون أن نعترف بما أنجزه بلدنا، تماما كما نصرخ لإدانة ما أخفق فيه؟
الإصرار على الفشل لن يُوّلد إلا مزيدا من الفشل، والاقتناع بأن مشكلتنا ليست في مجتمعنا، وإنما في طبقة المسؤولين عنا فقط، لن يفضي إلى لمزيد من انعدام الثقة، والانقسام والانتقام، ولهذا لابد أن نخرج من هذه المعادلات التي كرست فينا ثقافة التلاوم واللامبالاة، والصراع على الخيبات، وتغذية العداوات، وتضخيم الاخطاء وإنكار الانجازات ( لدينا حزب قوي اسمه أعداء النجاح)، هذا -بالطبع - يحتاج إلى صحوة وطنية عامة، تنطلق من إدارات الدولة و نخب المجتمع وعقلائه، فقد تغير الأردنيون حقا، وحان الوقت لتصحيح مساراتهم، لمواجهة عاديات وأزمات قادمات، لن تستثني أحدا، سواء أخطأ او أصاب.