منذ كشفت صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية الأحد الماضي بأن حاكم مصرف لبنان السابق «المتواري» عن الأنظار الآن (انتهت ولايته التي امتدت لثلاثين عاماً نهاية الشهر الماضي) رغم صدور مذكرة جلب بحقه للمثول أمام الهيئة الاتهامية, في جلسة تم تحديدها في 29 الجاري, بعد عدم مثوله أمام الهيئة ذاتها في الثاني من آب الجاري, بذريعة أن الدورية الأمنية التي كُلّفت بمهمة تبليغه «لم تعثر» عليه في منزله, رغم أن فصيلاً من القوى الأمنية اللبنانية يتولى حمايته 24/24 ساعة, منذ تسلّم منصبه حتى بعد خروجه منه.
نقول: منذ كشفت فايننشيال تايمز بأن رياض سلامة «أرسلَ شريحة ذاكرة Flash memory إلى جهات خارج لبنان، تتضمن أسرار عمله, سيتم نشرها على «الإنترنت» حال حدوث شيء سيئ له، فإن أجواء من القلق حدود الذعر، استبدت بغالبية النُخبة السياسية والحزبية وخصوصاً المصرفية والاقتصادية والقضائية والإعلامية, التي واظبَ «رموزها» على توفير حماية لحاكم مصرف لبنان وبخاصة في الفترة الأخيرة, التي ترافقت مع انهيار الليرة اللبنانية ووصول سعر صرفها مقارنة بالدولار الأميركي إلى أرقام فلكية, إذ قفز من 1515 ليرة مقابل الدولار في تشرين الأول/2019, إلى ما يزيد على 147 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد. فيما واصل «سلامة» إطلاق التصريحات الاستفزازية عن «قُرب» تجاوز هذه المرحلة, عبر إطلاق ما سُميَّ «منصّة صيرفة", واصفاً نفسه «حامي» الليرة ومُتعهداً إنعاشها. لكن شيئاً من هذا لم يحدث, خاصة بعد صدور مذكرات توقيف قضائية أوروبية (وآخرها أميركية, بعد أن كانت واشنطن تدافع عن رياض سلامة وتحول دون إقالته، إلى أن انتهى عقده الذي تجدّد خمس مرات, منذ جاء به رفيق الحريري إلى هذا الموقع، مُتكئاّ على خبرته الأميركية, وشريكاً في تمدّد الحريرية السياسية لبسط هيمنتها على القطاعين الاقتصادي والمصرفي).
هنا يتوجّب التوقف عند «الفضائح» المُجلجلة التي كشفها «التدقيق الجنائي», الذي كلُفتْ به شركة «الفاريز آند مارشال» الأميركية. إن لجهة جدول الأُعطيات والمكافآت والهدايا النقدية بمئات آلاف الدولارات, التي كان «يهِبها» رياض سلامة لجمعيات وزوجات وزراء يقمن بتنظيم «مهرجانات», كما لنواب وإعلاميين، أم خصوصاً للأرقام التي كشفت عن وجود «فائض» من العملات الأجنبية قيمته 2ر7مليار دولار عام/2015، إلى تسجيل «عجز» بقيمة 50 مليار دولار في نهاية عام/2020، أضِف ما قام باختلاسه شخصياً وهو 333 مليون دولار, كان حوّلها رياض سلامة إلى شركة حملت اسم «فوري», تبيّن أن شقيقاً له يمتلكها, إلاّ انه ثبت في النهاية أن شركة «الشقيق» لم تكن سوى وسيطاً قام بتحويل المبلغ إلى حسابات رياض سلامة الشخصية.
عودة إلى الـ Flash momery..
كان سلامة هدَّد في الآونة الأخيرة خلال وجوده في موقعه حاكماً لمصرف لبنان, وكما قال حرفيا انه «كتبَ مذكراته وسجّلها على شريحة ذاكرة, وأنه سيُسقط الهيكل على رؤوس الجميع إذا ما تمت محاكمته أو سجنه, وهو – أضافَ – أودعَ الشريحة في الخارج لدى جهات موثوقة ستقوم بنشرها حال أصابه أي سوء. وها هي صحيفة فايننشال تايمز, وثيقة الصلة بالأعمال ورجال الأعمال تؤكد الخبر ذاته, الذي كان سلامة كشف عنه في مقابلة سابقة, لم تكن حينذاك بدأت رحلة مطاردته من قِبل جهات قضائية أوروبية, بل كان ينفي ذلك بثقة ويبدي استعداده لمواجهتها وتحدّيها، فاذا به الآن مُطارد ومنبوذ ومتوارٍ عن الأنظار، بلا «جوازات» سفر بعد مُصادرة القضاء اللبناني جواز سفره الفرنسي واللبناني أيضاً.
وإذ بدا المشهد اللبناني كعادته مُنقسِماً بين صامت عن قصد يدّعي الحياد, وإن كان حياداً مزعوماً يستبطن إنتظار الكشف عن تورّط مُدعيه بتلقي أعطيات سلامة وهداياه, أم مُتشفٍ بحماسة لرؤية سلامة الذي اشترى رهطاً لا بأس به من الإعلاميين والمجلات المتخصصة في الدعاية للمصارف, التي خلعت عليه لقب «أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم», خلف القضبان كي يكشف أسراره ويطيح «نُخباً سياسية وقضائية ومصرفية وحزبية وإعلامية, طالما دافعت عنه بشراسة, لأنها كانت مستفيدة من تسهيلاته وهندساته المالية, وخصوصاً في «مساعدتها» على تحويل أموال بمئات الملايين إلى بنوك خارجية, فيما كان - وما يزال - ممنوعاً على المُودعين اللبنانيين وغالبيتهم بسطاء, سحب ودائعهم المتواضعة لمواجهة أكلاف العيش الصعب الذي يعانيه اللبنانيون. ستكون فضيحة العصر إذا ما وعندما يتم اعتقال سلامة, أو نشر محتويات «شريحة الذاكرة» خاصته, المُودعة الآن في مكان سِرّي وآمن خارج لبنان.
**إستدراك:
نشرت صحيفة «النهار» اللبنانية أمس/الثلاثاء في زاويتها اليومية التي تحمل اسم: «أسرار الآلهة».. ما يلي: سَرَتْ في الأوساط السياسية شائعات عن سعيّ الرئيسيْن بِرّي وميقاتي وقائد الجيش, إلى نقلٍ آمن لحاكم مصرف لبنان إلى قبرص ومنها إلى بلد ثالث, وأن القبول بعودة سوريين من قبرص أتى ضمن هذا التنسيقية.