عام واحد يفصلنا عن مجلس نيابي جديد تشكل الأحزاب السياسية الاردنية بين الناجحين على أساس القوائم الحزبية، وبين حزبيين خاضوا الانتخابات في الدوائر المحلية على أساس برامج حزبية ليشكل أعضاء الأحزاب ما بين ثلث ونصف مجلس النواب، وهذا سيحدده القانون الانتخابي والمزاج الشعبي ونسبة الإقبال على صناديق الإقتراع، وكذلك قدرة الأحزاب السياسية على إقناع الشارع الأردني بقدرتها على إحداث تغيير حقيقي داخل المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقدرتها على وضع برامج قابلة للتطبيق وخدمة مصالح المواطنين والدفاع قضاياهم، وحل مشكلتي الفقر والبطالة، واقناع المرأة والشباب بالانتساب إلى الأحزاب السياسية كمقدمة لتمكين حقيقي ثقافي واجتماعي وسياسي بعيدا عن فلسفة الكوتات، ودكتاتورية التشريعات، وهكذا نكون أمام نموذج نظام سياسي أردني جديد يتطور خلال خمس سنوات ليكون نظام تعددي وحكومة حزبية برامجية وبرلمان حزبي وفق خارطة الطريق الإصلاحية الناتجة عن الدستور وتعديلاته، ونتاج عمل لجنة تحديث المنظومة السياسية وأوراق جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله النقاشية. وهنا أتوقف للحديث عن جملة من القضايا التي إنشغل بها كثير من الساسة والمنضوين تحت عناوين حزبية وسياسية منذ مدة ليست بالقصيرة بمفهوم الدولة المدنية ونموذج الاردن الديمقراطي الجديد، وشكل مؤسسات الحكم ، وشكل الحزب والبرلمان الجديد في النموذج المستحدث دستوريا وقانونيا والمطالبة بتجسيد ذلك في الدولة الأردنية في كافة مجالات عملها بوصفها مشروعًا سياسيًا يؤسس لنظام سياسي اقتصادي واجتماعي جديد.
لقد هاجم البعض هذا مصطلح الدولة المدنية معتقدا أن هذا المصطلح يمثل فئة محددة، أو معتقدا وفق تحليل المعترضين أن مصطلح الدولة المدنية يصادر دور القبيلة او ربما يتعارض مع مفاهيم المنظومة القيمية والسلوكية والثقافية والدينية ، وهو ما شكل ردة فعل غير صحيحة لأن المفاهيم تستند الى اركان اقتصادية واجتماعية وسياسية لا آراء بعض المحللين وفق قناعتهم واسقاطاتهم الشخصية على المفاهيم والمصطلحات ، كما أن الشكل الجديد المفترض للنظام السياسي يفترض وجود عشرات النماذج بحكم الثوابت والمتغيرات في الفكر السياسي؛ إذن نستطيع القول أن القادم تغيير إيجابي حقيقي في شكل النظام السياسي الأردني، واذا كان البعض قد ذهب إلى أن الشكل الجديد نقيضًا للقبلية أو العشائرية أو الدين، لخلطه بين المفاهيم الدارجة أو تناقضاته مع أشكال النظم السياسية الأخرى كدولة الليبرالية والدولة الشمولية والدولة العلمانية، فعليه مراجعة نفسه لان التدقيق في هذا المفهوم سيضعنا جميعًا شئنا أم أبينا أمام مفهوم أنَّ الدولة المدنية هي دولة تحافظ على كل أعضاء المجتمع وتحميهم، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، وهي قضية أجزم أنها غير خلافية، والمبادئ التي تقوم عليها الدولة المدنية فكريًا بأركانها الثلاثة: السياسي والاقتصادي والاجتماعي تؤكد ذلك، وأهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث تضمن حقوق جميع المواطنين، وألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر؛ إذ توجد دومًا سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك؛ فالدولة هي التي تطبق القانون، وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم، وهذه مبادئ ليست موضع خلاف عند أحد، فمن أين جاء هذا الخلاف والتناقض مع دعاة هذه الدولة التي أؤكد أنَّ غالبيتنا يسعى إليها تحت مسميات عدة إلّا إن كان شخوص مروجيها هم المشكلة ولا اعتقد نظريًا بذلك.
صحيح أن من أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس على قاعدة خلط الدين بالسياسة ولكنها أيضًا لا تعادي الدين أو ترفضه. حيث إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعددية الذي تقوم عليه الدولة المدنية، وفي المطلق فالدولة المدنية هي دولة التعددية والديمقراطية ونظرية الحرية الثقافية والروحية والسياسية والاجتماعية والعدل والمساواة وسيادة القانون، لأن ما لا يضمن ذلك لا يمكن أن يسمى نظام ديمقراطي .
وكان جلالة الملك عبدالله الثاني الحسين قد كتب في الورقة النقاشية السادسة : " إن مبدأ سيادة القانون هو خضوع الجميع، أفراداً ومؤسسات وسلطات، لحكم القانون. وواجب كل مواطن وأهم ركيزة في عمل كل مسؤول وكل مؤسسة هو حماية وتعزيز سيادة القانون. فهو أساس الإدارة الحصيفة التي تعتمد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص أساسًا في نهجها. فلا يمكننا تحقيق التنمية المستدامة وتمكين شبابنا المبدع وتحقيق خططنا التنموية إن لم نضمن تطوير إدارة الدولة وتعزيز مبدأ سيادة القانون، وذلك بترسيخ مبادئ العدالة والمساواة والشفافية؛ هذه المبادئ السامية التي قامت من أجلها وجاءت بها نهضتنا العربية الكبرى التي نحتفل بذكراها كل عام " وهذه من أهم مرتكزات الدولة المدنية التي تمثل نموذج الدولة المدنية في مستقبل الأردن السياسي.
إذن كما كتب جلالته فإن مبدأ سيادة القانون جاء ليحقق العدالة والمساواة والشفافية والمساءلة على جميع مؤسسات الدولة وأفرادها دون استثناء وخاصة ممن هم في مواقع المسؤولية، من خلال ممارسات حقيقية على أرض الواقع. ولا يمكن لأي إدارة أن تتابع مسيرتها الإصلاحية وترفع من مستوى أدائها وكفاءتها دون تبني سيادة القانون كنهج ثابت وركن أساسي للإدارة.
إن التطبيق الدقيق لمواد القانون يعد من المتطلبات الضرورية لأي عملية تحول ديمقراطي ناجحة. كما أن سيادة القانون تضمن ممارسة أجهزة الدولة لسلطاتها وفق الدستور والقانون. فلا يمكن لدولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان أن تعمل خارج هذا الإطار. لذا، تشترك الحكومة وأجهزة الدولة كافة في حمل مسؤولية ما تتخذه من قرارات وسياسات وإجراءات، فمؤسسة البرلمان تمارس دورها في التشريع والرقابة، والقضاء المستقل النزيه والأجهزة الأمنية مناط بها تطبيق القانون، ليطمئن المواطن بأنه يستظل بسيادة القانون الذي يحميه ويحمي أبناءه دون تمييز أينما كان في ربوع هذا الوطن العزيز. وهذا يتطلب بالضرورة تطبيق القانون على الجميع دون محاباة أو تساهل وعلى المسؤول قبل المواطن، كما يجب أن يستند إلى تشريعات واضحة وشفافة، وإدارة حصيفة .
ولأن الديمقراطية منهج حقيقي للتغيير، وطريق صائب يبقي النظام السياسي متماسكًا وقادرًا على التعاطي مع كل المستجدات، وعاملًا للتغيير الجذري المرتبط بالتخطيط الإستراتيجي الذي يمس جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وينتقل بها مرة واحدة نحو الشكل الجديد.
إن المشاركة في التغيير ووضع الورقة في صندوق الانتخاب هما اللذان سيؤسسان للتغيير القادم، وإن النقوص والاستنكاف هي العدمية المطلقة والعقدة التأزيمية لأي نموذج يريد أن يرتقي ديمقراطيًّا للوصول إلى حالة أقرب للمثالية شريطة تناغم التشريع مع الأداء، وبات لزامًا علينا كافة بذل مزيد من العمل والجهد المدروس للاستفادة من دروس الماضي؛ تجنبًا للانتكاسات القاسية التي حلت بالحرية والديمقراطية عبر هذه المسيرة الطويلة، وللإفادة من الظروف الراهنة والتشريعات الجديدة الناظمة للحياة السياسية.
لكن القضية الرئيسة التي ما زالت تواجهنا جميعًا في هذا العالم هي في طبيعة الحل القادم وشكل النظام السياسي المرتقب، والأنموذج الحلم الذي سيشكل علامة فارقة في مستقبل الإنسانية جمعاء، وتضع هذه القضية مسؤولية بذل جهد مضاعف للملاءمة بين ما هو متغير في العصر وما يعد ثابتًا من حيث الفهم في أي فلسفة جديدة، ولكن هل تكون البداية معابد وصوامع للتفكير دون فعل حقيقي بالتغيير على الأرض في كل ديمقراطية ناشئة وأولها الأردن بمشاركة جميع من يحق لهم التصويت كي يختاروا لاحقًا شكل منظومة التشريعات الناظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحاسبون حكوماتهم، ويراقبون أداءها بدل اللطميات المعهودة وحالة الندب والبكاء التي أصبحت ممجوجة ولا سيما مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت للبعض فضاءً واسعًا للمثالية النظرية واللطم المجنون.
ولا شك في أن جلالة الملك عبدالله الثاني تنبه مبكرًا إلى هذه الأزمة فانطلق مبدعًا للعمل على تجديد المفاهيم والقيم والمعاني للإبقاء على حالة الحضور في العصر, وعدم الاغتراب في فهم ربما آن الأوان لتجديده, والخروج به من منعطفه الضيق، فكانت الأوراق النقاشية خارطة طريق للنموذج المنشود، كما أعطى تصورًا متكاملًا للمشكل الاقتصادي والاجتماعي ليشكلا مع المشكل السياسي الحل النهائي للاستغلال والعبودية والقهر وغياب العدالة والحياة في مجتمع تسوده العدالة والشفافية والنزاهة والشراكة في أجواء الحرية وإرادة التغيير موحدة الهوى، فهل من إنهاء لعقدة المشاركة وبخاصة في فئتي المرأة والشباب لتنتهي حالة النكوص على الذات؟
يحدث هذا في الوقت الذي يشهد الخطاب العربي مزيدًا من الاختلاف بالرغم من أجواء المصالحة هنا أو هناك حول تفسير القضايا التي تواجهه، وحول كيفية صياغة رؤية منظمة قادرة على لفت الاهتمام وحيازة الدخول في الحياة السياسية على حد سواء، وكل ذلك يستدعي من المفكر المنصف أن يقول إننا إذا دعونا إلى نظام حكم ديمقراطي فيجب أن نفصل بينه وبين أي نموذج قائم لنصمم نموذجنا، ونبني مفهومًا مشتركًا للديمقراطية الحقيقة، وهي الديمقراطية التي نصممها نحن وليس غيرنا ووفق ظروفنا وحاجاتنا، وتنطلق من الحاجة الماسة إلى القيام بتقييم حقيقي نظري، ومن ثم عملي، ومقارنته بما يتم في أي نظام آخر لنكتشف بسهولة بالغة أنَّ أي نظام سياسي لا يحقق حرية أفراده وفق منظومتهم القيمية وشريعتهم لا يمكن أن يسمى مجتمعًا ديمقراطيًّا أو نظامًا سياسيًا عادلًا مدنيًا، لأنه إذا كانت للمجتمعات تفضيلاتها, فإن نظام الحكم الديمقراطي له بالضرورة مقوماته أيضًا, ولا بد لكل شعب يريد تفكيك الاستبداد ويدرك مفاسد استمرار حكم الفرد أو الحزب أو الطبقة أو البرلمان, من أن يجري مفكروه وقياداته السياسية مقاربات جوهرية تزيل التعارض بين ثوابت مجتمعهم ومقومات نظام الحكم الديمقراطي، بالتركيز على جوهر كل منهما، ومن ثم تحديد الخيار الديمقراطي الذي يحقق وحدة السلطة والحرية معًا.
إنَّ كل أنظمة الحكم في العالم, لم تنتقل إلى نُظم حكم ديمقراطية بعد، بالرغم من أنه توجد فروق جوهرية بينها من حيث الانفتاح السياسي ومستوى حرية التعبير وحكم القانون ونمو المجتمع السياسي والمجتمع المدني، حيث من الجدير التأكيد عليه أن ممارسة السلطة مسألة عملية، فإما أن يكون مصدره فرد أو قلة وتكون بذلك تسلط، أو يكون مصدرهَا كل الشعب وبذلك تكون سلطة عادلة.
من هنا فإن على القوى الأردنية التي تنشد التغيير أن تميز نفسها وأن تطرح نظام الحكم الديمقراطي الذي يحقق مصالحها، وينسجم والعهد والبيعة التي قطعها المجتمع للملك بوصفه نظام حكم وطني يسد ثغرات الاختراق الخارجي، ويفوّت الفرص على الراغبين في تفكيك الدول العربية وإضعاف مجتمعاتها، وهذا لن يتم إلا بالمشاركة. فليكن شعارنا لنشارك في التغيير، ونبتعد عن لطميات العدميين المتشائمين دومًا والمحبطين ولا نترك الساحة خالية للناعقين على الخراب.
من هنا فنحن نبحث عن نموذجنا الديمقراطي الأردني الخاص بعيدًا عن نماذجهم؛ من أجل التغيير السلمي المنشود نحو الأفضل والقابل دائماً للتطور وفق آليات مجتمعية ثقافية واقتصادية وسياسية.