ما تزال أصداء ما ورد في نص «التدقيق الجنائي» الذي نُشر قبل ثلاثة أيام, بناء على «حُكم قضائي", تتردّد في جنبات المشهد اللبناني المأزوم والمُحتقن, خاصة بعدما كان وزير المالية اللبناني تكتّم عليه رافضاً نشره. علماً أنه وزير المالية/يوسف الخليل جاء إلى موقعه الوزاري قادماً من المصرف المركزي اللبناني حيث شغل لفترة طويلة منصب مدير العمليات المالية فيه، الأمر الذي أضفى الشكوك عن سرّ هذا التكتم الذي يبديه وزير المال, بعدما أن سلّمت شركة التدقيق: «الفاريز آند مارشال» تقريرها المؤلف من 332 صفحة موزعة على 14 باباً, ا?طوت على تفصيلات للعمليات المحاسبة والمصرفية المعقدة, التي أشارت بوضوح إلى مسؤولية رياض سلامة (حاكم المصرف المركزي منذ عام/1993, وانتهت ولايته في 31 تموز الماضي)، مسؤولية سلامة في إدارة «دكانة» (على ما وصفت صحيفة لبنانية مؤثرة بعد حصولها كـ«سبق صحفي» على النص الكامل للتدقيق الجنائي), كان سلامة يضع (وفق تقرير شركة التدقيق العالمية) الخسائر باعتبارها أرباحاً مؤجّلة.
وإذا كان رياض سلامة قد جاء به رفيق الحريري, بعد صعود نجم الأخير وتكريسه الحريرية السياسية, بعد اتفاق الطائف قادماً من شركة خدمات تمويلية عالمية/ميريل لينش, (يملكها بنك أُوف اميركا), كان يشغل فيها نائباً للرئيس ومستشاراً مالياً, على ما تقول سيرته الذاتية التي تبدو وكأنها «سحرتْ» رفيق الحريري, كشخصية ملائمة لتمرير سلسلة القرارات التي أراد منها الحريري الإمساك بكل تفاصيل المشهدين السياسي والاقتصادي في لبنان، فإن ثلاثة عقود مُتصلة أمضاها سلامة في موقعه, لم تسفر سوى عن انهيار كامل للاقتصاد اللبناني وفقدان اللير? اللبنانية 98% من قيمتها, على نحو عرقل فيه سلامة مهمة التدقيق الجنائي أكثر من مرة, رافضا تسليم شركة التدقيق الأميركية الوثائق والمستندات الضرورية لعملية التدقيق، ما أدى لانسحابها, مع العلم أن سلامة كان يدفع لها أتعابها عند تذرّعه بـ«السريّة المصرفية», لكن وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة في مواجهة بعض النُخب السياسية والحزبية والاقتصادية/المالية ومنها أصحاب المصارف، لم يجد سلامة أمامه سوى الرضوخ، ما أسفر عن كشف غير مسبوق لعملية الفساد الكبرى التي قادها سلامة, بعد أن أحاط نفسه طوال هذه الفترة بثلة فاسدة من الس?اسيين والإعلاميين وأصحاب البنوك وقادة الأحزاب, الذين كانوا يتلقون هباته وقروضه بفائدة ضئيلة، لا يلبثوا أن يضعوها في المصرف المركزي كودائع بفوائد عالية, ناهيك عن ما أسماها ذات يوم «الهندسات المالية», التي كان يدفع مقابلها فوائد عالية للبنوك المُقترضة أموالها من المصرف المركزي, بذريعة أنه يريد رفع رصيد المصرف المركزي من العملات الصعبة. ما دفع كثيرين لوصف الوظيفة/المهمة التي نهض بها رياض سلامة, بانها «أكبر عملية إحتيال في التاريخ». ليس فقط لأنه اختلس (كما جاء في التدقيق الجنائي) مبلغ 333 مليون دولار، كان يُحو?ها إلى شركة تحمل اسم «فوري», تبيّن أنها تخص شقيقاً له, ولم يكن ذلك الشقيق الذي يخضع الآن للتحقيق في لبنان, والملاحق جنائياً من قبل دول أوروبية عديدة بتهمة غسيل الأموال, سوى واجهة لرياض سلامة نفسه, الملاحق هو الآخر بمذكرات «حمراء» من الإنتربول, والمطلوب لدول أوروبية مثل: فرنسا وألمانيا ولوكسمبرغ وقبل يومين صدرت بحقه مذكرات اعتقال أميركية، بريطانية وكندية. بعدما ظنّ/سلامة بأن الدول الغربية التي كانت توفر الحماية له عبر سفاراتها في بيروت، لن تتوانى عن إبقاء تلك الحماية، لكنها خذلته, كعادتها مع الأدوات التي تو?فها ثم ترميها عندما تنتهي المهام التي كُلفت بها، ما بالك أن وظيفة سلامة إنتهت بتدمير اقتصاد لبنان وإفقاد عملته الوطنية قيمتها, رغم إلتزامه العقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية على شخصيات وشركات وأصول لبنانية, يُكن لها سلامة العِداء باعتباره آداة أميركية/أوروبية.
يصعب إيراد تفصيلات تدقيق جنائي طويل مُدعّم بالأرقام والوثائق والأسماء, التي كان سلامة يغدق عليها الأموال بمئات آلاف الدولارات, ومنها شخصيات سياسية وإعلامية وأخرى جمعيات (خيرية)، ناهيك عن الأسطورة التي أضفاها على نفسه عندما كانت تنشر مجلات اقتصادية «عالمية» وأخرى إقليمية ومحلية, «فوز» سلامة بلقب المصرفي الأول في الشرق الأوسط (وأحياناً في العالم), مذيلة بأسماء جمعيات وهيئات مصرفية وإعلامية مغمورة, لكن الضخ الإعلامي كان يترك أثره داخل لبنان وفي الإقليم.
ثمة أرقام لافتة ومثيرة جاءت في تقرير التدقيق الجنائي تقول: كان لدى مصرف لبنان «فائض» في العملات الأجنبية 2ر7 مليار دولار في عام/2015، إلا أن الأمر انقلب إلى «عجز» بقيمة 7ر50 مليار دولار في نهاية العام 2020.
**استدراك:
لم يأتِ التدقيق الجنائي على التحويلات المالية (عبر المصرف المركزي اللبناني) إلى الخارج, التي قام بها سلامة وقادة أحزاب مثل سمير جعجع منذ اندلاع الاحتجاجات في العام 2019. إذ كشفت الناشطة/جينا الشمّاس (في 22 تموز الماضي) أنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع", قام بتهريب 16 مليون دولار إلى خارج البلد بين شهري 8 و9 عام/2019». لم يلبث «حزب» جعجع أن وصفَه بالكاذب والمُلفَّق والمُختلَق، وسيقوم الحزب بالإدعاء على شمّاس بتهمة الإفتراء الجنائي والذمّ.
لكن جعجع وحزبه لم يدّعيا على السيدة الشمّاس, ولاذا بـ«الصمت حتى الآن».