يتربع قضاؤنا على الدرجة الثالثة من «سُلّم» الثقة لدى الأردنيين، فحسب آخر استطلاعات الرأي لمركز الدراسات الاستراتيجية (أيار 2023) تحظى المؤسسة العسكرية بثقه نحو 86%، والمؤسسات الأمنية بنحو 84%، فيما يثق 64% بالقضاء، أعرف أن هذه النسبة تراجعت، خلال العامين المنصرفين، لأسباب عزاها بعض الخبراء لطول فترة التقاضي، أو لتجارب فردية لمتضررين من صدور أحكام ضدهم، لكن المؤكد أن اغلبية الأردنيين ما زالت تعتقد أن القضاء الاردني، بكافة مرافقه، يتمتع بقدر عال من النزاهة والعدالة، وانه يشكل الملاذ الآمن لإنصافهم، واستعادة حقوقهم، على الرغم مما طرأ على مجتمعنا من تحولات، وعلى بعض إدارات الدولة من تراجعات.
تبدو مهمة حُرّاس العدالة، في العادة، صعبة، ليس، فقط، لأنهم يبحثون عن العدل والحق (الاثنان اسمان من أسماء الله تعالى ) ويتحرون الوصول اليه، ولا لأنهم بشر قد يصيبون ويخطؤون فيحرصون (أكثر من غيرهم ) على أن تكون ضمائرهم يقظة باستمرار، وإنما لوجود بعض الالتباسات بالتشريعات، أو الضعف بالإجراءات الإدارية، لكن يبدو أن مهمتهم في المرحلة القادمة ستكون أصعب، ما يستدعي حشد الجهود في مجالات التدريب والتثقيف، خاصة فيما يتعلق بالقوانين الجديدة، وتحديدا التي تمس الحريات العامة، إضافة إلى ضرورة انفتاحهم على المجتمع، لإشاعة الوعي القانوني فيه، و توطيد العلاقة معه.
لا يراودني أي شك أن قضاءنا مستقل، و أن فيه من الكفاءات ما تستحق احترامنا وتقديرنا، وقد اثبت، في كل مرة يتعرض فيها للامتحان، انه على «قدّ» ثقة الأردنيين واعتزازهم، لكن المهم أن نرسخ في أذهاننا هذه الحقيقة أولا، وأن لا نتردد، ثانيا، عن إدانة أي محاولة، من أي جهة كانت، للتدخل في أحكام القضاء، أو إقحامه بالمجالات السياسية والاجتماعية، لأننا، عندئذ، سنضر انفسنا، ونظلم بلدنا، ونفقد -لا سمح الله - أهم القلاع التي يجب أن نحرص على أن تبقى صامدة وشامخة، وعنوانا لانتصاب موازين العدالة والأمن والاستقرار.
لا يوجد مهمة تتقدم على مهمة تحقيق العدالة وإقامة موازينها، وإذا كان العدل هو الغاية المقصودة من الشريعة ومن الحكم، فانه -أيضا- الغاية المرجوة من الإصلاح والأساس للحرية والكرامة والتنمية، وهذا كله مرتبط بمدى تمكين مرفق القضاء، بكل طواقمه والعاملين فيه، من ممارسة واجبهم والانحياز لضمائرهم في مناخات سليمة وظروف مناسبة.
هذه المناخات وتلك الظروف مرتبطة بتعزيز استقلال القضاء، وتحصينه من أي وصاية او تدخل، كما أن إقامة موازين العدالة وحمايتها من الاختلال ليست ميزة للقضاة وحدهم، وإنما مصلحة للدولة والمجتمع، وضمانة للاستقرار ومبدأ سيادة القانون.
بقي أن أشير إلى ملاحظة أخيرة، وهي أن «ترسيم» العلاقة بين إدارات الدولة وسلطاتها اصبح ممرا اجباريا للدخول بمسارات تحديث الدولة في مئويتها الثانية، وتطمين الأردنيين، الشباب تحديدا، على مستقبلهم، وإعادة ثقتهم بمؤسساتهم، هذا «الترسيم» يجب أن ينتقل من دائرة النظر إلى دائرة العمل، و أن يبعث برسائله للمجتمع، ويحظى باهتمام كل الأردنيين، ولا يخضع لأي مزايدات، او اختراقات، من أي طرف كان.