كما بات معلوما للجميع، فقد فرضت الظروف والتحولات الاقتصادية العالمية، مؤخراً، شكلاً موحداً للسياسة النقدية لدى مختلف البنوك المركزية العالمية، اجتمعت نحو تحقيق هدف واحد، ألا وهو مواجهة الضغوط التضخمية التي صاحبت الخروج من تداعيات جائحة كورونا، تحيطها بيئة اقتصادية ومالية عالمية متقلبة تسودها حالة كبيرة من عدم اليقين.
هذا الأمر دعا البنوك المركزية للتحول من سياسات نقدية توسعية غير مسبوقة إبان جائحة كورونا إلى سياسات تشددية غير مسبوقة أيضا في فترة قصيرة، أعادت إلى الأذهان مرحلة ترويض التضخم في ثمانينيات القرن الماضي على اختلاف المسببات.
أسوق هذه المقدمة لأستذكر هنا ما أكدته في مقال سابق بعنوان "مؤشرات نقدية" بأن الإدارة الراشدة للسياسة النقدية من قبل البنك المركزي الأردني أدت لنتائج ايجابية لا تخفى على أحد، وجنبتنا تبعات العديد من الأزمات، سواء تلك التي عصفت بمحيطنا الإقليمي خلال العقد المنصرم، أو لاحقا على الصعيد الدولي. ولقد أثبتت الأيام صحة توجهات البنك المركزي وإجراءاته، وأجد نفسي اليوم ملزماً بالعودة مرة أخرى للحديث عن مؤشرات القطاع النقدي والمصرفي، ونحن نلمس بوضوح جدية البنك المركزي في تسخير أدواته النقدية نحو استقرار المستوى العام للأسعار والتصدي للتضخم، وتوجيه الاقتصاد في الاتجاه المناسب.
أعلم جيداً أن ما سأورده قد لا يلاقي قبولاً لدى جميع الأطراف، ولكن سندع الحكم في النهاية للغة الأرقام التي لا تجامل ولا تهادن ولا تزين الواقع.
فبعد نحو عام ونصف العام على بدء التشدد في السياسة النقدية للبنك المركزي الأردني لمواجهة الضغوط التضخمية وللمحافظة على جاذبية العملة المحلية، ها هي المؤشرات النقدية والمصرفية المتوفرة تؤكد لنا نجاعة قرارات البنك المركزي وسلامة إجراءاته في حينه.
أحدث البيانات المنشورة من قبل دائرة الإحصاءات العامة تشير إلى انخفاض معدل التضخم من 4.2 % في نهاية العام الماضي إلى 3.0 % حاليا، الأمر الذي أسهم في استقرار القوة الشرائية للدينار الأردني.
كما أن المتتبع لأحدث الأرقام المعلنة من قبل البنك المركزي الأردني لا يحتاج إلى كثير عناء لملاحظة الزيادة في حجم الودائع والتسهيلات لدى البنوك، وهي مؤشرات إيجابية مبشرة تبعث رسائل مطمئنة بأن قرارات البنك المركزي برفع أسعار الفائدة خلال الفترة الماضية لم تحدث ارتدادات سلبية على الوضع الاقتصادي، كما كان يتخوف البعض، فالودائع لدى البنوك وصلت في حزيران الى نحو 42.5 مليار دينار، وهي تزيد بنحو 1.6 مليار دينار عن مستواها قبل سنة من الآن كان معظمها ودائع بالدينار. وهذه الودائع هي حصيلة عوامل عديدة في الاقتصاد منها ثبات القطاع المصرفي واستقرار الاقتصاد الوطني، وهي بالغة الأهمية في توفير التمويل للنشاط الاقتصادي. وما يدعو للارتياح أن زيادة الودائع رافقها أيضا زيادة مماثلة تقريبا في التسهيلات الممنوحة من قبل البنوك والتي وصل رصيدها إلى نحو 33.5 مليار دينار خلال نفس الفترة. وقد شكل ذلك بلا شك عاملا مهما في زيادة الودائع وفي تحريك عجلة النشاط الاقتصادي، وهو ما يؤكده ارتفاع النمو في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من العام الحالي الذي بلغ 2.8 %. وما يبعث على الاطمئنان أيضا والتفاؤل في مسار السياسة النقدية نجاح البنك المركزي في الحفاظ على مستوى مرتفع من العملات الأجنبية، تراوح حول 17 مليار دولار.
من جديد يبرهن البنك المركزي نجاح سياسته النقدية وفعالية اجراءاته المتخذة في خضم ظروف دولية غاية في الصعوبة، ويرسخ دوره كصمام أمان في الاقتصاد الوطني، كما تثبت بنوكنا المحلية قوتها ومرونتها وقدرتها على تحييد التبعات التي قد تنجم عن المشاكل التي واجهتها بعض البنوك الأميركية والأوروبية مؤخراً نتيجة لعدم الاستقرار المالي، وقراراتها الاستثمارية الخاطئة.