تميّز حفل إحياء الذكرى الـ«78», لإلقاء الولايات المتحدة الأميركية «أول» قنبلة نووية في التاريخ, يوم السادس من آب 1945, بجملة من التناقضات والمواقف الملتبسة وتجهيل الفاعل بعدم الإشارة إلى اسمه، بل وإلقاء اللوم ورفع منسوب المخاوف من دولة أخرى, لم تُقدِم على جريمة غير مسبوقة كهذه، في هولها وعدد ضحاياها بل خصوصاً غياب المُبرر (إن كان ثمة مبرر أخلاقي أو سياسي أو حتى عسكري لاستخدام هذا السلاح المدمر)، خاصة أن اليابان كانت بدأت في الانكسار عسكرياً، بعد الانتقام الأميركي من الجيش الإمبراطوري, إثر الضربة الجوية المدمرة التي شنها اليابانيون على ميناء بيرل هاربر في 7/12/1941، فيما جاء استخدام القنبلة النووية التي اسماها الأميركيون (الولد الصغير Little Boy)، بعد أربع سنوات تقريباً على هجوم بيرل هاربر. الأمر الذي عكس من بين أمور أخرى، مدى الهمجية الأميركية واحتقار قادتها لقوانين الحرب والقانون الدولي, وكل ما له صلة بالإنسانية, بدليل أن الأمر لم يتوقف عند قنبلة هيروشيما, التي حصدت بكبسة زر واحدة ما يزيد على 140 ألف ضحية بين قتيل ومصاب لا شفاء له. بل اتبعتها بعد «ثلاثة» أيام فقط بقنبلة نووية أخرى ولكن على مدينة «ناغازاكي» في التاسع من آب 1945.. مُطلقة اسم «الرجل البدين» على القنبلة النووية. ما بعث على التساؤل عن الصلة بين الولد الصغير (اسم قنبلة هيروشيما) و«الرجل البدين» القنبلة النووية التي كانت من نصيب ناغازاكي, التي حصدت «80» ألفا من الضحايا.
هنا تحضر بقوة الكلمات والمصطلحات والإشارات التي تضمنتها كلمة رئيس الوزراء الياباني/فوميوكيشيدا, الذي شدد على «ضرورة» التخلّي عن الأسلحة النووية, لكنه ما لبث أن تجاهل تماماً تسمية الدولة التي اقترفت جريمتي ناغازاكي وهيروشيما, التي هو أحد سكانها ومنها انطلق مشواره السياسي/والحزبي.، ذاهباً مباشرة إلى «التحذير» من التهديدات النووية «الروسية»، والبرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، دون حتى أن يغتنم الفرصة لدعوة الإدارة الأميركية أو تذكيرها, بضرورة تلاوة فعل الندامة والإعتذار عن جريمتيها ضد المدينتين اليابانيتين. بل مضى قدماً باتجاه الحرب الأوكرانية بالقول: إن الأعمال العدائية في أوكرانيا، بدأت ليس لأن أوكرانيا لا تمتلك أسلحة نووية, لكن – أضاف – لأن روسيا تمتلكها».
معروف أن اليابان جزء من التحالف الغربي وتربطها علاقة وثيقة بالولايات المتحدة, منذ استسلامها لقوات الحلفاء في 15 آب1945, وتوقيعها وثيقة الاستسلام في الثاني من أيلول 1945. (مع التذكير بأن اليابان بعد استسلامها اعتمدت ثلاثة مبادئ غير نووية بعد الحرب، تمنعها من التسلّح النووي، إضافة إلى تصديق برلمانها على عدم خوض أي حرب خارج حدودها الإقليمية, وكل ذلك تغيّر الآن, بموافقة بل وبضغط أميركي، كما هي حال ألمانيا «المُستسلمة» التي رفعت موازنتها العسكرية إلى «200» مليار دولار).
ثمة ضرورة للتذكير بجملة من الحقائق التي يجري الطمس عليها وتجاوزها، إذْ كان الرئيس الأميركي الأسبق/أوباما, أول زعيم في النادي النووي «الوحيد» الذي زار متحف القنبلة الذرية التذكاري في هيروشيما عام 2016، عندما كان رئيس الوزراء الحالي/كيشيدا وزيراً لخارجية اليابان في حكومة رئيس الوزراء (الراحل) شينزو آبي، ولم يقُم/أوباما بالاعتذار أو إبداء الأسف. وهذا ما تكرّر في قمة مجموعة G7, التي انعقدت في مدينة هيروشيما قبل ثلاثة أشهر فقط (19/5/2023), عندما زار قادة المجموعة بمن فيهم الرئيس بايدن, متحف القنبلة الذرية التذكاري في المدينة المنكوبة، بل وكتبَ كلمة في سِجل المتحف, دون أن يعتذِر او يبدي أسفا على غرار ما فعل أوباما.
فكيف يتم قلب الحقائق وتوجيه الاتهام لدولة لم تستخدم السلاح النووي؟ بل الأكثر أهمية أن هذه الدولة/روسيا التي يُحذر منها كيشيدا, لم تنشر أسلحة نووية (تكتيكية وليست إستراتيجية) خارج حدودها، سوى مؤخراً في بيلاروسيا لأول مرة. فيما تنشر الولايات المتحدة (أول دولة في العالم استخدمت عملياً السلاح النووي ضد أهداف مدنية صِرفة), أسلحة ورؤوساً نووية استراتيجية/ وتكتيكية في دول أوروبية عديدة وآسيوية/تركيا (وربما في جزيرة أوكيناوا اليابانية منذ اندلاع الحرب الباردة حتى الآن.
إنها آلة الدعاية الغربية المُضللة, التي تقلب الحقائق وتُحرفها, وتخترع روايات وسرديات تجعل من القاتل ضحية ومن الضحية قاتلاً. على النحو الذي جربنا كعرب في أكثر من قضية وحرب واحتلال وبخاصة مع العدو الصهيوني الفاشي, الذي ما تزال واشنطن بإداراتها المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية تخلع على الكيان العنصري, لقب «الدولة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط, وتسوّغ جرائمه ضد الشعب الفلسطيني بأكذوبة «حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها وشعبها».. دون اهمال حقيقة أن المُستعمِرين الغربيين لم يعتذروا عن جرائمهم ونهب ثروات الشعوب التي استعمروها, على النحو الذي فعلته فرنسا وبريطانيا والمانيا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال وهولندا. ولا تنسوا الحروب والغزوات والإحتلالات.. «الأميركية».