في مقال سابق كان بعنوان هندسة الديمقراطيات ومخرجاتها، تحدثنا عن تأثير التدخل الحكومي وأجهزتها في تشكيل ورسم المواقع التي تُمثل الشعب، وتُعبّر عن صوته، ويفترض أن تكون عين الشعب في مراقبة عمل الحكومات، وذلك من أجل تمرير السياسات وتبعاتها بعيداً عن تأثيرات الشارع والرأي العام، وتنفيذ إرادتها البحتة في وصفة ديمقراطية زائفة لخداع الشعوب ولنستكمل الحديث هنا عن خدعة الحكومات البرلمانية والحزبية القادمة
بات الحُلم قريباً للساعين لحكومات برلمانية حزبية تقوم على مبدأ سيطرة الأحزاب بنسب معيّنة للدخول في معترك تشكيل الحكومات القادمة، والتي هي مستقبل يتّفق عليها الجميع ليكون للشعب حيّز أكبر لتنفيذ رؤيته وأرادته من خلال ممثلين عنه يخرجون من رحم الانتخابات، عبر برلمانيين حزبيين يقودون صوت الشعب يمثلونه صعوداً الى مرحلة جديدة عبر تشكيل حكومات، ولو بنسبة معيّنة فيها وعلى طريقة المحاصصة مع أحزاب أخرى لقيادة الحكومة وسياساتها بما يتوافق مع رغبة أكبر فئة من الشعب
ما سيجني الشعب ؟! بكل بساطة سيجد الشعب نفسة مغبونا عند حصولة على إرادته ومبتغاه، ليكتشف أنه قد حقق نصراً وهمياً في تشكيل حكومات برلمانية حزبية منتخبة، وسيُفاجئ ممثلوه الذين الذين تم هندستهم بالفعل من قبل أذرع الحكومة في مناصب مُفرغَة ووزارات تنفيذية فقط، وأنهم مجرد موظفين حكوميين برتبة معالي، وسيكونون مجرد مسؤولين عن إدارة موظفيهم، وأقسام وزاراتهم، ومُتلقين للأوامر فيما يخص السياسات العريضة والسيادية، ولن يكونوا قادرين على رسم أي سياسات أو تعديلها أو حتى المشاركة فيها
أنّ من أراد التماشي مع متطلبات الشارع والرأي العام، والخلاص من المشاغبين برأيه، قد أيقن مبكراً إصرارهم على تنفيذ رغبتهم التي طالبوا بها بكل الوسائل المتاحة، لذلك فكّر في طريقة لتفيذ هذه المطالب لامتصاص غضب الجماهير على طريقته الخاصة دون المساس بطريقة إدارة الدولة الحقيقية ودون السماح للحكومات البرلمانية والحزبية بالتشويش عليها، وذلك من خلال إنتاج واستحداث سلسلة من الهيئات المستقلة ترتبط كل واحدة منها بوزارة مُعيّنة لادارة أهم اختصاصاتها
الكثير من الشعب يفكر في الهيئات المستقلة من وجهة نظر واحدة، وهي أنها مُجرد تنفيعات لأبناء الذوات والنُخب، أو كلف إضافية تُثقل كاهل الموازنات المتهالكة أصلاً، لكنهم لم يعلموا حقيقة ومدى سوء وخبث الهدف من إنشائها، والذي هو باختصار شديد أنها مجرد كيانات مُستتره لتنظيم القطاعات، وسرقة أهم ملفات الوزارات، وتعتبر حكومة موازية تُدير أمور الدولة والمؤسسات الحكومية والخاصة بعيدا عن تأثير الشعب ومناكفاته
أودّ أن أشير أيضاً إلى أن تغليظ العقوبات على منتقدي السياسات الحكومية في قادم الأيام بالتزامن مع اكتمال الصورة المستقبلية، سيكون حتمي، وقد بدأ فعلياً منذ زمن وجاري العمل على تطوير آلياته بنصوص فضفاضة لتكميم أفواه المنتقدين سواء على السياسات الفاشلة أو على عرّابيها من النُخب الرسمية في سياسة واضحة للتمييز بين المواطن والمسؤول، وفي خرق واضح للحقوق الدستورية، وتضييق فاضح وتقويض للحق الدستوري للمواطنين في حق إبداء الرأي، ومراقبة الإجراءات الحكومية والسياسات التي تمس جميع مناحي حياتهم الحاضرة والمستقبلية
في نهاية المطاف ستولد حكومات برلمانية حزبية، وسيفرح الجميع، وسيحتفلون بانتصار الإرادة الشعبية الحرّة، لكنّهم لن يجدوا أي تحسّن في تنفيذ رؤيتهم رغم مرور الوقت، وسيبدؤون في البحث عن الأسباب، وسيكيلون جلَّ الاتهامات على ممثليهم في الحكومات قبل أن يكتشفوا في نهاية المطاف حقيقة أنها مجرد حُلم تم سرقته بخبث قبل سنوات من ولادته