قبل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي وتكاثر المواقع الإلكترونية المختلفة لم يكن أمام القارئ العادي (غير المتخصص) سوى صُحف ورقية محدودة يكتب بها عدد من الكُتاب المحدودين والمعروفين غالباً، لذا لم تكن هناك مشكلة أمامه تتمثل في السؤال الآتي: لمن أقرأ؟
أمّا الآن فإضافة إلى الكُتّاب الذين يكتبون في الصحف الورقية يجد القارئ أمامه أعداداً كبيرة من الكتاب الذين يكتبون في موضوعات مختلفة وعبر الوسائط المتعددة لذا لا بدّ له من الاختيار وبخاصة إذا كان يعتقد أنّ وقته ثمين ويجدر به ألّا يضيعه.
إنّ الطرح الآنف الذكر يقودنا إلى مواصفات الكاتب الجيد الذي يقرأ له القارئ وهو واثق أنه يستفيد من الوقت الذي يكرسه لقراءَة ما يقدمه هذا الكاتب، ولعلّ أهم ما يجب أن يتصف به مثل هذا الكاتب:
أولاً: أن يكون ذا ثقافة رفيعة (وليس بالضرورة ذا شهادة عالية)، واسع الاطلاع، محيطاً بالموضوع الذي يتصدى له بحيث يشعر القارئ عندما يقرأ له أنّ هذا الكاتب يضيف إلى معلوماته فعلاً.
ثانياً: أن يكون قادراً على التعبير ومتمكناً من توصيل الفكرة التي يكتب عنها، بحيث تبدو أفكاره متسلسلة، متسقة، منطقية ومترابطة. وكم من إنسان لديه أفكار عميقة ولكن ليس لديه قدرة تعبيرية مناسبة.
ثالثاً: أن يكون معنياً بجمالية التعبير ورونق الألفاظ وحسن اختيارها بحيث لا يفهم القارئ الأفكار التي يريد الكاتب إيصالها فقط؛ بل يستمتع كذلك، والواقع أن كثيرين من المفكرين والكتاب والمثقفين قد يقدمون أفكاراً جميلة ولكنها لا تجد طريقها إلى عقل القارئ وقلبه لأنها مصوغه بطريقة جافة، أو معقدة أو مجافية للذائقة الجمالية.
رابعاً: أن يكون ملتزماً "بالحقيقة"، فالكاتب الذي يستحق أن يُقرأ لهُ هو ذلك الكاتب الذي يتحرى الحقيقة ويبحث عنها بدأب، الأمر الذي يعني أنه لا يكتب لهدف قليل الشأن أو مليء بالتحيز (نرجسي، طائفي، مناطقي، شوفيني، ....)، وبعبارة أخرى فإنه الكاتب الإنساني الذي يخصص عصارة فكره وكتابته لقضية مهمة وإنسانية تستحق أو يُلتفت إليها، وبالطبع فإنّ هذه القضية قد تكون محلية، أو قد تكون إقليمية، أو قد تكون عالمية.
خامساً: أن يكون صاحب رسالة تنويرية بحيث يهدف من وراء كتابته إلى رفع مستوى الوعي لدى الجمهور بالقضية التي يكتب عنها، ويحرّضه فكرياً على الفهم، والوعي، والتفاعل الخصب والبنّاء مع أبناء المجتمع وقواه الحية، والواقع أن الكاتب المُجيد يجب أن يطمح إلى أن يكون "مثقفاً عضوياً" لا يرمي فقط إلى التوعية والتنديد بل إلى "التأثير" والتمهيد للتغيير في المجتمع إزاء القضايا التي يتعرض لها.
وختاماً فإنّ الكتابة الحقّة ليست هواية، أو ترفاً، أو تنفيساً بل هي تعبير عن مُخاض فكري حقيقي يبدأ بالاهتمام بفكرة ما، ثمّ بالتعمق في فهمها ومناقشتها ذهنياً بكل جوانبها، وأخيراً صياغتها صياغة موفقة على شكل مقالة، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية، أو أيّ شكل من الأشكال التعبيرية المختلفة. إنها معاناة لا يعرفها إلّا من يجربها وكما قال الشاعر:
لا يَعرِف الشَوق إِلّا مَن يُكابِدُه ولا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها