في خضم الحديث، عن الانتخابات البلدية واللامركزية، وما أفرزته من نتائج، وما صاحبها من تصرفات مستنكرة، أولها عزوف نسبة كبيرة من سكان المدن الرئيسية عن المشاركة بالانتخابات، لحجج ومبررات كثيرة، لكنها في معظم الحالات تدل على اللامبالاة، وعلى ضعف الشعور بالمسؤولية، وعلى عدم الاكتراث بما يجري في البلد، وصولاً إلى التشكيك بجدية الدولة، مروراً بالاعتداء على هيبتها وانتهاك قوانينها بصور كثيرة، لعل أبشعها، الإطلاق الكثيف لنيران الأسلحة في مهرجانات الفائزين، وهي ممارسة لا تزيد عنها بشاعة إلا بشاعة الاعتداء على المرافق والأموال العامة، من قبل أنصار بعض الذين لم يحالفهم الحظ بالانتخابات، وما بين هذه وتلك كان إغلاق الطرق وتبادل الشتائم على صفحات التواصل الاجتماعي بما في ذلك شتم مؤسسات الدولة، والتشكيك بنزاهتها، إلى غير ذلك مما يصب في هز الثقة بالدولة وهيبتها وفي إضعاف روح المواطنة.
في خضم ذلك كله، وبترتيب غير مقصود، أتيح لي الجلوس إلى السيد مطيع حماد، ومطيع حماد لمن لا يعرفه هو أحد فرسان قواتنا المسلحة، الذين أحيلوا إلى التقاعد برتبة لواء، وليست هذه هي قيمته الحقيقية، فما هو أهم من ذلك أن الرجل قاتل في مرحلة شرسة، ومفصلية من عمر الدولة الأردنية، كان فيها وجودها مهدداً من حيث المبدأ، أعني بها فتنة أيلول حيث كان الرجل ركن عمليات في القيادة العامة للقوات المسلحة، وهنا تكمن قيمة إضافية أخرى للرجل: ليس لأنه شاهد على العصر وشريك في صناعة أحداثه فقط، ولكن للذاكرة التوثيقية الحادة التي يمتاز بها، والتي تمكنه من استرجاع أدق تفاصيل ما وقع من أحداث، خاصة في جوانبها الإنسانية، ودلالات هذه الجوانب، وهي أحداث تشمل ما قبل فتنة أيلول وما بعدها، بما في ذلك لحظة استشهاد وصفي التل، وقبل ذلك جولات المغفور له الحسين بن طلال على وحدات القوات المسلحة، ونومه في معسكراتها وطبيعة علاقته بجنودها وضباطها.
كنت استمع إلى حديث مطيع حماد، وهو يتدفق على لسانه، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمامه، ليثور أمامي السؤال: متى نكتب التاريخ الحقيقي للشعب الأردني، الذي صنعه رجالاته الحقيقيون، ممن يمتلكون عقيدة وطنية صافية وصادقة، جعلتهم رجال بذل وعطاء، يهبّون لحمل المسؤولية وقت الشدة، ويفتحون صدورهم للموت إذا جد الجد، وحان الحين، دفاعاً عن ما يؤمنون به، وأول ذلك الإيمان بالله ثم الإيمان بوطنهم ودولتهم، وضرورة أن يكون وطناً عزيزاً ودولة مهابة، وفي مقدمة هؤلاء الرجال، فرسان القوات المسلحة الأردنية، الذين طالما لعبوا دوراً حاسماً في صناعة الأحداث، وتوجيهها لترسيخ وجود الدولة، واستقلالية قرارها وبسط هيبتها.
إن كل قراءة علمية محايدة لتاريخ الدولة الأردنية المعاصرة، تؤكد حاجة الدولة إلى رجال بذل، يحملون مشروعاً، ويسعون إلى تحقيق حلم، وهذا الصنف من الرجال هم الذين سطروا الصفحات المشرقة في تاريخ الدولة الأردنية المعاصرة فعلى سبيل المثال فإن القراءة المتأنية لتجربة جيل شاهر أبو شحوت ورفاقه، من ضباط القوات المسلحة الأردنية، والتجربة التي خاضها جيل مطيع حماد من ضباط القوات المسلحة ستقود إلى أن ما بين التجربتين حبلا متينا غزله الأردنيون بأشواقهم وتطلعاتهم وسهرهم وعرقهم ودمهم، ففي تجربة جيل شاهر كان الأردنيون يدافعون عن استقلال القرار الوطني لدولتهم وعن انتمائهم القومي، أما في جيل مطيع حماد فكانوا يدافعون عن وجود دولتهم وهيبتها واستمراريتها، وفي كلتا الحالتين «لم يحرث البلاد إلا عجولها» ولم يحمها إلا فرسانها وأبناء بيئتها وتجربتها، أما الطارئون عليها، فكل الدلائل تشير إلى أن حقائبهم كانت معدة للرحيل، لأن علاقتهم بالأردن علاقة «غنم « ليس فيها « للغرم» مكان، وهذا هو المؤلم في حكايتنا الأردنية، التي آن آوان كتابة فصولها الحقيقية من أفواه أبطالها الحقيقيين، أمثال مطيع حماد وكل الذين مازالوا على قيد الحياة من هؤلاء الصناع للتاريخ الحقيقي لشعبنا ودولتنا، فقد صار التاريخ أمانة بين أيديهم ونحن أشد ما نكون حاجة لهذه الأمانة، في هذه الأيام التي يتكاثر فيها تكسر النصال على النصال، استهدافاً لدولتنا وشعبنا، فليس التشكيك بمؤسسات الدولة خاصة عبر التحليلات الصحفية التي تدّعي الموضوعية إلا السطر الأول الذي لا نريد له أن يكتمل، وحتى لا يكتمل هذا السطر، فإن علينا أن نؤشر أولاً على كل من يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه من فوضى وتطاول على هيبة الدولة، والأهم من ذلك أن نستفيد من تجربتنا التي تقول أن الدول يبنيها ويحميها رجال قادرون على حمل المسؤولية، رجال يحملون مشروعاً، ويسعون إلى تحقيق حلم، فهكذا كان الأردنيون، أبناء دولة قائمة على مشروع، يحميها رجال يحلمون بما هو أفضل لوطنهم وأمتهم، وهكذا يجب أن يعودوا من خلال قراءة تاريخ عسكرهم، وتاريخ البناة الأوائل لدولتهم من الرجال الذين كانوا يقدمون ولا يحجمون، ويبذلون دون أن يسألوا عن الثمن.