جرت الممارسة الادارية في بعض الشركات حصر وظائف إدارة الموارد البشرية في دورها التقليدي البسيط، المتمثل في متابعة سجل الدوام وإصدار بعض الوثائق الرسمية، إضافة الى ضبط السلوكيات وتطبيق لائحة المخالفات والعقوبات على بعض التجاوزات المحتملة، وعمليات التوظيف وتقييم الأداء وإدارة الأجور والمزايا، وعلاقات العاملين، قبل ان يتم التعرف على الدور الاستراتيجي الذي يمكن ان تلعبه إدارة المواهب البشرية وقدرتها على استغلال مواردها البشرية الاستغلال الأكبر نحو تحقيق اهداف الاعمال في جميع المراحل، وفقا للاستراتيجية المخططة، من خلال البحث عن المهارات والكفاءات والمواهب وصقلها لتشكل ميزة تنافسية حقيقية يمكن ان تساهم في زيادة الحصة السوقية عبر الاختراعات والابداعات والابتكارات التي يمكن ان تحققها لتعزيز قدرات المنظمة الجوهرية.
وعلى الرغم من ان بعض الادبيات النظرية تشير الى هذا الدور المهم وتسلط الضوء عليه عند اعداد الخطة الاستراتيجية وما يمكن ان يتضمنه من أدوار أخرى لوظائف التسويق والمبيعات وأنظمة المعلومات وسلاسل التوريد والتخزين والتوزيع الا ان بعضا من الإدارات تتجاهل هذا الدور الاستراتيجي لإدارة الموارد البشرية في ذلك، اما لجهل في المعرفة اللازمة و نقص في الآليات العملية التطبيقية او تهميشا متعمدا لهذا الدور باعتبارها كلفة (Cost Center) يمكن تجنبها في الوقت الحاضر، ثم تعويضها لاحقا.
اثبتت التجارب العملية ان العقليات القيادية تختلف من شركة الى شركة أخرى، حيث يميل المدراء المتنورين بالعلم والمعرفة بكل ما هو جديد في علم الإدارة الحديثة، اكثر قدرة على فهم هذا الدور متزايد الأهمية، في تحقيق اهداف الشركة، ليس على المدى المتوسط فقط بل يتعداه الى المدى البعيد كما تفرضه الاستراتيجية، في حين يميل المدراء التقليديون أصحاب المدرسة القديمة في الإدارة ( The Old Management School) الى الاهتمام في وظائف محددة في الشركة باعتبار نتائجها تلتقي مع رؤى أعضاء مجلس الإدارة، وتبقي المدراء العامين فترة أطول في مناصبهم قبل الاكتشاف ان ثمة ازمة حقيقية بادية في الظهور مع تجاهل الدور الاستراتيجي لادارة الموارد البشرية، ومع زيادة درجة المنافسة في السوق، ودخول منافسين جدد باستراتيجيات وآليات ومنهجيات جديدة يمكن ان تسحب البساط من تحت اقدام تلك الإدارات التقليدية، ومن ثم تتسبب في خسارة محققة النتائج، او خروج بطىء من السوق بسبب زيادة التكلفة وعدم القدرة على استغلال الفرص او تجنب الازمات المختلفة والمتوقعة باعتبار السوق بيئة متقلبة غير ثابتة، لا يمكن الركون الي سكونها لفترات طويلة دون منغصات.
كما تشير التجارب أيضا ان الإدارات التي تتبع منهج التدخل في التفاصيل (Micro Management) هم اكثر الإدارات تخلفا عن استيعاب هذا الدور الاستيراتيجي للموارد البشرية، واقلها كفاءة في التطور والتحديث، وقد تتخذ قرارات معينة، او تفرض تصورات تتعارض او تعطل تطلعات إدارة الموارد البشرية في لعب دورا جادا وحقيقيا في تنفيذ الخطة الاستراتيجية للشركات.
ان نجاح الشركات مرتبط بشكل او بآخر بكفاءة ومهارة مواردها البشرية، ولا يمكن الاطلاع على تجربة نجاح حقيقية لاي شركة دون تفوق مواردها البشرية في الأداء، وهذا يعود بالضرورة الى تعزيز الدور الاستراتيجي لادارة الموارد البشرية، بحيث تدار هذه الدائرة وتمارس اعمالها كما يمارس شريك الاعمال الاستراتيجي دوره في الشركات، والنتيجة هي أفضل أداء وباقل تكلفة ممكنة نحو استخدام اكثر كفاءة وفعالية للموارد.
الإدارات الذكية هي التي تعي جيدا هذا الدور وتدرك أهميته قبل ان تضع أهدافها الذكية ( Smart Objectives) والمشتقة من الخطة الاستراتيجية العامة للشركة، مع ايمان وادراك مجالس الإدارات لهذا الدور والإصرار على طرحه في جدول اعمالها وبشكل اعتيادي ومتكرر، لا ان يكون هذا الاهتمام بسبب تشديد رقابة الشركات على تعزيز هذا الدور، والاكتفاء بالحد الأدنى من الالتزام القانوني كما تتصرف الكثير الشركات حيال ذلك.
لكن ما هو الدور الاستراتيجي لل HRM في الشركات، وكيف يمكن ان تساهم في تعزيز المنافسة والحصول على حصة الأسد في السوق، و تحسين مراكزها المالية في زيادة الإيرادات والارباح وخفض التكاليف ؟. يمكن تلخيص هذا الدور الاسترايتجي بالنقاط التالية:
تساعد إدارة الموارد البشرية في وضع استراتيجيات توظيف وتطوير واحتفاظ بالموظفين الموهوبين والمتميزين الذين يدعمون رؤية وأهداف المنظمة، وتعمل على تحليل احتياجات الموارد البشرية وتوجيه جهود التوظيف والتدريب وتطوير الموظفين بشكل يتوافق مع استراتيجية المنظمة.
من جانب اخر تساهم إدارة الموارد البشرية في تطوير قدرات الموظفين لتعزيز أداء المنظمة وزيادة قدرتها على التكيف مع التحديات الجديدة، يتضمن ذلك تنفيذ برامج التدريب والتطوير وتوفير الفرص للتعلم وتنمية المهارات والمعرفة التي تعزز الابتكار والفعالية التنظيمية.
كما انها تلعب دورًا حاسمًا في إدارة التغيير والتحول في المنظمة، حيث تساعد في تحسين ثقافة المنظمة وتعزيز التواصل والتعاون بين الموظفين وتوجيههم خلال فترات التغيير والتحول الهيكلي، كما تعمل أيضًا على إدارة التوترات والمشكلات الناجمة عن عمليات التغيير وتعزيز تبني الموظفين للتغيير.
ومن الوظائف الاستراتيجية والمهمة لادارة الموارد البشرية هي بناء الثقافة التنظيمية الايجابية، حيث تعمل بناء ثقافة تنظيمية صحية وملهمة في الشركات، تسهم في تعزيز القيم والمبادئ الأساسية وتشجيع الموظفين على الالتزام بها، وتعزيز التواصل والتعاون والشفافية، إضافة الى الاستثمار في مواهب العاملين من خلال تشجيع الابداعات والابتكارات وتوفير بيئة حاضنة لهم.
نؤكد هنا ان النظرة الضيقة وقصر النظر هي غالبا ما تحول دون ادراك ادارة الشركات ابعاد الدور الاستراتيجي للموارد البشرية في شركاتهم، فغالبا ما تركز الشركات على العوائد قصيرة الاجل والتوجه نحو النتائج الفورية، فالتركيز على الجوانب التشغيلية والمالية فقط دائما ما يؤدي في النهاية الى تأجيل الوعي بأهمية هذا الدور، وكلما تأخرت الشركات في ادراك هذا الدور كلما صعبت مهمة جعل إدارة الموارد البشرية المحرك المستدام للابداع والابتكار فيها.
ودعونا لا نتجاهل ان الاستثمار في الموارد البشرية وتعزيز دورها الاستراتيجي يتطلب استثمارات طويلة الاجل فيها مما يشكل تحديا مالية، قد لا تكون متاحة لدى الشركات ذات الموارد المحدود،
كما ان سوء التنسيق توجيه القيادة داخل الشركة، ربما يؤدي الى اهتمام غير كافٍ بإدارة الموارد البشرية، ويخفي إرادة داعمة وقوية باتجاه إدارة الموارد البشرية من قبل القيادات العليا في الشركات، ويتضاءل مع الزمن الدور الاستراتيجي للموارد البشرية فيها.