تبدع المجتمعات دوماً حينما تنجح في صياغة أدبٍ مرئيٍ يصنع ثقافة تمثّل هموم وأولويات الناس، وبكل تأكيد هذا يدعونا لأن نطرح تساؤلنا المشروع: لماذا لا يمكننا في الأردن صياغة مثل هذا الأدب، وما هي العوائق أمام ذلك؟ والجواب يأتي فوراً أن العوائق كثيرة، وأولها ما يعانيه الناس والمجتمعات البشرية بعمومها من هرج ومرج، ولكننا أيضاً نستعرض حالة الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو الذي لم يكن في نزهةٍ أو في حالة ذهنية يسودها التهريج وهو يكتب عن "عصر التفاهة" في كتاب جاء بعنوان: نظام التفاهة، فأبدع في ذلك لا محالة ونجح في ما كتبه وبات علامة فارقة في مجاله.
نعلم بأن هذه المشكلة ليست وحدها الشعوب العربية من تعاني منها، بل إن ضحالة الأدب المُقدّم للناس ومنه المرئي تعاني منه الشعوب بأكملها، كما أن "ثقافة التفاهة" تُقدم اليوم بصفتها الثقافة السائدة، ثم يراد صناعتها ويراد لها أن تحكم وتضبط إيقاع أفراد المجتمعات البشرية وهذا الأمر يضيف مزيداً من الأعباء على من يريد صناعة ثقافية جادة مفيدة، ولعل الكثير منّا يتابعون اليوم ويرون بأن لا شيء مفيد وجاد إلا ما يقدم من أطباق تفاهة أو مما يقدّم من شخصيات توّلد التفاهة وأفكار معلّبة بطريقة أنيقة حتى لا يرى أحد تفاهتها.
هُنا وبكل واقعيّة، فقدت الدراما قدرتها على تقديم ما يجب أن تقدمه، وباتت المواد التي تصنعها من جدل واختلاف هي تلك التي لها صلة وثيقة مع نظام التفاهة العالمي، و دعونا هنا نقول ونعترف بأن من أهم وسائل تشكيل الوعي المجتمعي في مختلف القضايا سلباً أو إيجاباً هي الدراما التي تنقل تفاعلات الناس مع واقعها الإجتماعي فتحوِّل قصص المشاهد إلى وعي جمعي يرتد على الواقع الحي في جميع مجالاته ومنها الجانب السياسي.
كل هذا يذهب بنا إلى الوقوف كثيراً عند أهمية الدراما والفن وتوظيفها السياسي، فهي القوة الناعمة لتوجيه رسائل اجتماعية وسياسية للمجتمع، لا سيما ونحن نخوض محيطات في الظلمات فوق بعضها طبقات متراكمة؛ ليس في مجتمعنا بحسب، بل في العالم أسره، كما أن التشابك والتفاعل بين السياسة والدراما يعتبر ذو أهمية كبيرة لما يقدمه من تكوين الصورة الذهنية من الناحية السياسية، ونود أن نقول أيضاً أن هنالك أهمية لخلق مساحة واسعة لنقل جدل المجتمع والسياسة إلى دراما وبث نقاشات شعبية، وتقوم تلك الدراما على تقديمها في مقاربات فنية لمحاكاة مجموعة من القضايا أو التركيز على واحدة منها ليصبح لها دور في معالجة صادقة دون انحياز وأن لا تكون مجرد مسكنات دون حلول.
إن تأثير الفن السياسي ودوره في المجتمع يعتبر تأثيراً بالغ الأهمية للدخول في معترك الحياة السياسية، كما يكون أيضاً أداة لجمع أناس مختلفين مقابل الشاشة لمشاهدة وتقديم سرديات، حتى لو كانت متعارضة مع سياسة الإنتاج، مثلاً يؤدي إلى تشكيل وعي سياسي راسخ؛ يغير في سلوكيات الناس بما تتطلبه الاستراتيجيات والخطط، ولن أخوض في جانب الدراما والسرديات التاريخية وأهميتها في تقديم القضايا للمجتمع الدولي، بل سأبقى في دائرة تأثير الدراما محلياً وعن دور الدراما والفن في السياسة، وهذا ما أردت تسليط الضوء عليه فالدراما ونجاح رسالتها في ذلك تزعج من لا يريدون الإصلاح والتحديث السياسي، وتزعج الفاسدين من بعض المسؤولين ومن هم في بعض المؤسسات من خلال تسليط الضوء على مواطن الخلل لتقويمها ومعالجتها.
دعوني أن أختم هذا المقال حينما كنت برفقة زملائي أعضاء لجنة تمكين الشباب في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية وأذكر حينها كيف أشّرنا للأدوار الهامة للدراما على صعيد التنشئة السياسية للشباب وقدّمنا توصيات للجهات المختصة ضمن ورقة السياسات التي قدمت مع حزمة القوانين حينها، وكلّي أمل أن ترى هذه التوصيات النور كما رأت باقي التوصيات ومخرجات اللجنة الملكية النور وخرجت إلى حيّز التنفيذ بعد مرورها بالقنوات الدستورية المختلفة، وباعتقادي أن هذا الطموح قابل للتحقيق نظراً لأهميته الكبيرة، فلا سبيل لنا اليوم إلا بالإصلاح الشامل الذي يجب أن نتكاتف جميعاً من أجله سعياً لنهضة أردننا واستمرار تحديثه وصولاً لما نأمله.
انتخابات قادمة لم يألفها الأُردنيون من قبل.. فما المطلوب حزبياً؟ وماذا عن القوائم الانتخابية؟
كتب: سلطان عبد الكريم الخلايلة
الانتخابات النيابية المقبلة ذات شأن تاريخي في الأُردن، ليس لأنها تحمل تفاصيل جديدة فيما تتعلق بالأحزاب المُشاركة، بل أكثر من ذلك؛ حيث أننا أمام انتخابات طموحة، يريد المشاركون فيها من المترشحين الحزبيين أن يصنعوا فرقاً مُميزاً.
دعونا ندخل في التفاصيل، فهي انتخابات تحمل أكثر من فارق سيرى الأردنيون معها مشهدا لم يألفوه من قبل.
مشهد يبدأ من تشكيل قوائم انتخابية على المستوى الوطني، بقائمة حزبية نسبيّة مغلقة تترتب فيها الأسماء بأرقام مُحددة مسبقاً يذهب الناخب فيها ليضع صوته بمن اقتنع به من هذه القوائم المخصصة للأحزاب فقط ، فيما يُرافق هذه القوائم الوطنية مسار متواز آخر في القوائم المحلية التي ستُشكّل من المترشحين، حسب نظام القوائم النسبية المفتوحة.
ما زالت روافع اختيار الأحزاب لمرشحيها أو ما يسميها البعض القواعد ويرافقها الإجراءات غير الثابتة في معايير الاختيار، وإلى جانب ذلك غياب النصوص في هذه العملية، الأمر الذي يجعلها بحاجة الى مزيد من التوضيح، ومنها تباين كبير في الأُسس لاختيار المرشحين في القوائم الانتخابية؛ بالأخص القوائم العامة منها، أو ما يُطلق عليها القائمة الوطنية.
هنا نتحدث عن نقاط مهمة تتلخص في آلية اختيار المرشح ليتمكن من الامتداد على مستوى الوطن، وهذا الأساس أولاً، ولعل ما هو مؤكد أن الأحزاب التي ستشارك بقوة ستشكّل داخلها لجنة حزبية لهذا الهدف، وستكون معنية باختيار دقيق للمترشحين في القائمة الوطنية ثم مرشحيها في الدوائر المحلية، ومن المفيد القول إن ما يجب أن تستقر عليه لجان الأحزاب سابقة الذكر هو في وجود أسس اختيار واضحة حتى تنجح في حصد المقاعد وتجاوز حد العتبة المقرر للقوائم الوطنية والمحلية.
وهنالك أسئلة كثيرة مطلوب من اللجان الحزبية الإجابة عنها قبل اختيار المترشحين في قوائمهم الانتخابية، وعلى رأس هذه الاسئلة:
أليس من المفروض بمن يطرح نفسه مرشحاً للبرلمان أن يُعرَف بشكل مميز في العمل العام، وما هي المناصب أو المواقع سواء العامة أو الخاصة التي تولّاها؟ ومدى اتقانه في هذه المواقع؟ وما هو تأثير هذه المواقع على قوته المجتمعية؟
نُدرك أن هناك أشخاصاً لهم تجارب سابقة يجب استقطابهم والتفكير بهم كروافع للقوائم ومنهم من كان في مجالس نيابية سابقة أو بلدية أو في النقابات وغيرها، ومن الممكن أيضاً أن تذهب اللجان لاختيار مرشحيهم من المرأة والشباب من خلال لجان نسوية وشبابية على مستوى المملكة، أو استقطاب من خاض تجارب شبابية انتخابية، أو ممن لهم مشاركات واضحة في مجتمعهم، كما أن مرشح الشباب لا بد وأن يخضع لمعايير خاصة - كونه محدود الخبرات العملية بحكم عمره الفتيّ مقارنة مع باقي المرشحين- لكن لكل حزب في تلك الاختيارات نكهته الخاصة ورؤيته.
أما من سينجح في الانتخابات القادمة فهو الحزب الذي سيبدع في تسويق أفكاره الحزبية، أو الإيمان الكبير في أفكار الحزب وبرامجه من خلال المُناصرين، فنحن أمام عدد كبير من الأحزاب تخوض التجربة لأول مرة، وفي ظل قانون جديد سمح بولادة أحزاب جديدة، لم تقم حتى الآن ببناء إطارٍ فكريٍ لها، بل هي حتى الآن أفكار برامجية محددة وربما في بعضها أفكار عامة سيسعون لتطبيقها مستقبلاً.
وبالعودة إلى التساؤل الذي يطرحه الشارع؛ ماذا عن قانون الانتخاب الجديد؟ فهُنا نجد الجواب بأن الصوت الثاني للناخب الذي أتاحه القانون الجديد سيعطي حتماً مؤشرات بارتفاع نسب التصويت، وخاصة لمن لا يبدو أنه يكترث بدائرته الانتخابية التي توسعت الآن وفق القانون الجديد على مستوى وطني ما يتيح للناخب خيارات أوسع، كما أن التجربة برِّمَتها حديثة العهد ونجاحها مطلوب للانتقال للمرحلة الثانية من مشروع التحديث السياسي بسلاسة وتفاؤل، كما أن من أهم عوامل نجاحها هو السؤال عن شكل القوائم الحزبية للناخبين، فهي التي ستجعل المشهد الانتخابي ذو تنافسية بالغة، ونتائج جديدة العهد بالأردن والأُردنيين.
إن من سيذهب إلى صناديق الاقتراع عليه أن يقتنع أولاً بما أمامهُ من أحزابٍ ومترشحين، ومن هنا سنرى كيف أنّ نسبة الاقتراع سترتفع أو ستنخفض استناداً لهذا المشهد، وكلّ ذلك سيكون تحت خيمة خيارات الأحزاب لمرشحيهم يليها مرشحي القوائم المحلية التي ستكون حسب نظام القوائم النسبية المفتوحة.
أما ما هو مُلفت في القانون الجديد، فيتعلق بالمقعد النيابي في القوائم الوطنية الذي جعل الحزب مؤسسة سياسية، وليس نائباً فرداً، وما يعنيه ذلك إلزام النائب الحزبي الفائز عن القائمة الوطنية أن يخوض التجربة وفقاً لأُسس وبرامج الحزب والمضي ضمن منظومة الحزب، وإلا سيتم محاسبته ضمن محكمة حزبية توصله لسحب المقعد النيابي منه واستبداله بصاحب المقعد الذي يليه بالترتيب التالي، وهو مشهد لم يألفهُ الأردنيين من قبل، وهو بحد ذاته معيار مهم لا بد وأن يدفع النائب للعمل بشكل جماعي، وهذا الأمر مطلوب بالفترة القادمة لإنجاح المسيرة سعياً لتطوير وتجويد العمل النيابي.
إن التوجيهات الملكية تُقدِّم دوماً رؤية واضحة نحو التحديث السياسي، فاللقاءات الملكية الأخيرة كانت تؤشّر بوضوح وبشكل مباشر من جلالة الملك على الدور المهم والكبير للأحزاب في إقناع الناس ببرامجها وخططها، كما أوضح جلالة الملك بأن الانتخابات القادمة ستكون بداية مسيرة للإصلاح السياسي الذي هو الخيار الوحيد وليس خياراً بين خيارات أخرى، وأن التجربة يجب أن تحدُث ونَتَعلّم منها لتطويرها وتحسينها، كما أن أهم ما يجب اقناع الناس فيه اليوم هو آلية تشكيل الأحزاب لقوائمها الانتخابية، وأن تكون تلك القوائم مُقنعة بشكل كبير وأنها ستُقدّم المطلوب لتأسيس مرحلة برلمانية ناجحة أساسها العمل الحزبي البرامجي، لنبدأ مئويتنا الثانية من عُمر الدولة بمسار تحديث سياسي سيقود حتماً للنجاح في باقي المسارات التي نأمل لها كل التوفيق.
ختاماً، فإنه يتوجب علينا قبل ذلك أن ندرك أن كل القوانين مهما اختلفت ووضعت، ستبقى قاصرة ما لم يصاحبها وعي المواطن، ودور الحزب في أن يكون رافعة للعمل البرلماني الهادف لحكومة برلمانية، فالرؤية واسعة، وعلى الأحزاب أن تكون على قدرها، وصولاً إلى ما نصبو إليه.