دون أدنى تردد، فإن العادة الموسمية، والمُتمثلة بحادثة إحراق نُسخة من المُصحف الشريف على يد سويدي متطرّف، وتحت حماية الشرطة في أول أيام عيد الأضحى المُبارك، بذريعة حقوق الإنسان، تستوجب التوقف عندها، ووضعها في السياق اللغوي، والقانوني، والسياسي؛ للخروج بفهم واضح للأسباب الحقيقية، وهذا يُمكنّا من تأسيس منظومة إجراءات رادعة، لمنع تكرارها، وشبيهاتها من الرسوم المُسيئة للنبّي الكريم عليه الصلاة والسلام.
تدعّي السويد أن مبادئها الديمقراطية ترتكز على الثالوث الحقوقي، والمُتمثل بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام ١٩٤٨، والدستور السويدي/القانون الأساسي لحرية التعبير، واتفاقية مجلس أوروبا لعام ١٩٥٠ لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والتي تُعرف بالمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، حيث أدخلت السويد مُعظم تلك البروتوكولات إلى قوانينها، وأصبحت نافذة عام ١٩٩٥. حيث ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة ١٩، على أن "لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود".
كما تنص المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان في المادة ١٠ على "١- لكل شــخص الحق في حرية التعبير. ويشــمل هــذا الحق حرية الــرأي، وحرية تلقــي أو نقل المعلومــات، أو الأفكار، مــن دون أن يحصل تدخل من السلطات العامة، ودونما اعتبار للحدود. ٢- يجــوز إخضاع ممارســة هــذه الحريات وما تشــمله مــن واجبات ومســؤوليات، لبعــض المعاملات، أو الشــروط، أو القيــود، أو العقوبات المنصوص عليها في القانون، والتي تُشّكل تدابير ضرورية في المجتمع الديمقراطي، للأمن الوطني، أو ســلامة الأراضي ... أو لحماية سُــمعة الغيــر، أو حقوقه ".
أما الدستور السويدي/ القانون الأساسي لحرية التعبير، فينص في المادة الأولى: "يكفل هذا القانون الأساسي للجميع، الحق في التعبير علناً عن أفكارهم، وآرائهم، ومشاعرهم، تجاه المؤسسات العامة، وفي نقل المعلومات، حول أي موضوع على الإطلاق علانيًة عبر الراديو، والتلفزيون، ... وفي الأفلام وتسجيلات الفيديو، والتسجيلات الصوتية والتسجيلات الفنية الأخرى".
على الجانب الآخر، ينص الدستور فيما يتعلق بالأهداف الرئيسية للنشاط العام، على أن السلطة العامّة، يجب أن تُمارس على الجميع باحترام؛ من أجل قيمة المساواة، بناءً على احترام حرية، وكرامة الفرد. ويذكر كذلك أن المؤسسات العامة يجب أن ترّوج للمثل العُليا للديمقراطية، كمبادئ توجيهية في جميع قطاعات المجتمع. كما يجب أن تعمل المؤسسات العامة كذلك على مكافحة التمييز ضد الأشخاص على أساس الجنس أو اللّون، أو الأصل القومي، أو العرقي، أو الانتماء اللغّوي أو الديني، وأخيراً يجب تعزّيز الفرص للعرق السامي الذي تعود جذوره لقدماء "النرويج، والسويد، والدنمارك"، والأقليات الإثنية، واللغوية، والدينية؛ للحفاظ على حياة ثقافية واجتماعية خاصة بهم وتنميتها.
وهنا يُكشف زيف ذلك الادعاء بالنظر إلى الفرق بين النظّرية السُويدية للديمقراطيّة، وكيفية ممارستها على أرض الواقع. فثمة بونٌ شاسعٌ بين النصوص، والممارسات؛ فكما تمت الإشارة بالأعلى لحرية التعبير، باعتبارها بشكل عام منوطة بالأفكار، والآراء، والكلمات، التي تعارض، أو تدعم سياسة، أو فكرة محددة، ينطوي مفهوم الاحتجاج العام تحت الحدود الضيّقة لحرية التعبير؛ باعتبارها "أفعال" أكثر منها تعبيرات فكرية أو لغوية. وحتى فيما يتعلق بتلك الأفعال أيضًا، فإن اشكال التظاهر المُجمع عليها تشمل: المسيرات، والمظاهرات، والاغلاقات، والعصّيان المدني، وقد يرافقها، في أوقات مُعينة، الجُنوح نحو العنف والتخريب، وقطع الطُرق كحالات محدودة، وخارجة عن حق التعبير، والتجمع، والتظاهر السلمي، وبالتالي، وفي هذه الحالة تكون قد انتهكت القانون الذي أطّرَ ممارستها بالطريقة المقبولة حقوقيًا واجتماعيًا، وفقدت رمزية غايتها، وحصانتها القانونية، وهالتها الأخلاقية. ومع كل هذا، فلم تنص المعاهدات، لا صراحةً ولا ضمنًا على "الحرق" لا باعتباره حقًا اصيلًا، أو مركزيًا، ولا جزءًا من حرية التعبير، ومع ذلك، فإن عمليات الحرق المُصاحبة للمظاهرات الصاخبة، عادةً ما كانت تتم بحق "أعلام الدول، وصور بعض رموزها وقياداتها".
ولكن، عندما يتعلق الأمرُ بالإسلام، نجد بأن الديمقراطية السويدية عرجاء، وتقف على قدم واحدة؛ وذلك بأنها تُفعّل حق الفرد "غير المُسلم" بالتعدي على معتقدات الآخرين، "وخاصة المسلمين"، وتُغفل وتُجّرد من يقع عليهم هذا الفعل، من أن يتمتعوا بحقوقهم الموازية، والمنصوص عليها بالأعلى، سواءً بالدستور، أو الإعلان العالمي، او المُعاهدة الأوروبية. حيث لا يوجد أي نص، يعتبر أن حرق الكتب المقدسة، والإساءة للرموز الدينية، والتعدي على حقوق الآخرين، وخاصة إذا كانوا مواطنين ويشكلون ما نسبته ١٠٪ من اجمالي السُكّان، شكلًا من أشكال حرية التعبير. وهنا نجد بأن الدافع هو حقد متأصل على الإسلام، لا يمكن تبريره، ولا الدفاع عنه، ولا قبول الاستمرار الموسمي في التعبير عنه. فالفكرة هنا أن هذا العداء ليس فرديًا، بل يتم بشكل منهجي ومؤسسي ويدار برعاية دولة تزعم الذود عن الديمقراطية.
إن تأمين الحماية الرسمّية، لشخص يُشّكل فعله المُتطرّف، خطرًا على السلّم الأهلي السويدي، وسببًا في انقسامات عميقة في المجتمع، ومُحفزًا على نشر الفوضى المُحتملة، وتقويضًا لحقوق الأقليات بما فيها المُسلمة، من جهة، أو احتمالية تعريض السويد لمزيد من العُزلة السيّاسيّة، والاقتصادية، خصوصًا من قبل العالميّن الإسلامي، والعربّي، من جهة اخرى، لا يستقيم، ولا يتسق مع النّص الدستوري، الذي ألزم سلطات الدولة بكفالة "تدابير ضرورية في المجتمع الديمقراطي، للأمن الوطني، أو ســلامة الأراضي، أو السلامة العامة، أو لحماية ســُمعة الغيــر أو حقوقه"، وهو ما يُشكل قاعدة دستورية، واستثناء للدولة؛ تستطيع بموجبه رفض اصدار موافقات لمثل تلك الاْعمال. إلا أن السويد لم تُعر بالًا لذلك، ولم تُقيد منح الأذونات، بالرغم من حجم ما قد ينتج من ضرر نظير السماح بمثل تلك الممارسات، وهنا يبدو أن السويد لا تؤمن بالنظرية العقلانية لاتخاذ القرارات، والتي تقوم على حساب التكلفة والمنافع.
كل هذه التناقضات من شأنها، أن تجعل نجاعة التجربة الديموقراطية السويدية، كحالة ديمقراطية غربية، موضع تساؤل وشك: فكيف يُمكن لهذا الفهم الديمقراطي المغلوط والقاصر لحرية التعبير، والمقرون بأفعال مُتعارضة مع النصوص الديمقراطية العالميّة والمحلية، أن يُشكل نموذجًا ديموقراطيًا جذّابًا للديموقراطيات الناشئة، أو أن يكون عاملًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار، والوحدة الوطنية، بين مكونات المجتمع السويدي بشكل عام، وذلك عند اعتبار ما ينّص عليه الدستور السويدي، من ضرورة أن تنتهج المؤسسات العامة، نموذجًا للترويج لقيم الديمقراطية كمبادئ توجيهية في المجتمع. والسؤال هنا، لماذا تقوم السلطات السويدية برعاية مثل هذه التصرفات، بالرغم من تقديرها للعواقب السالف ذكرها، والتي تطغى كلفتها على نفعها، بدءًا من ردود الأفعال الأخيرة. تلك التي صدرت من جهات مُختلفة، كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وروسيا، والمنظمات الإقليمية وغيرها، اضافًة إلى دعوات المقاطعة والتي ستأثر سلبًا على الاقتصاد السويدي. وبالرغم من أن ردود الأفعال هذه دون المستوى المطلوب، ولكنها تُعتبر أكثر حدة، واتساقًا، ونطاقًا من السابق.
فبالإضافًة للحجج الواهنة، والتي تحاول السويد جاهدة أن تُسوقّها، والمُتمثلة بضمان حق التعبير، كحق متأصل للفرد، وبعد التسليم بالمُبرر الحقيقي والمتمثل بالعدائية للإسلام، أجدني انزع إلى اعتبار جملة من الدوافع السياسية، والتي قد يكون لها الدور الأكبر، في تنامي ظاهرة الاعتداء على المُصحف الشرّيف مؤخرًا في السويد بالتحديد. فقد تبرز فكرة اظهار صلابة الدولة السويدية في الدفاع عن نظامها الديمقراطي، كأحد الدوافع، خاصة بشكل مناوئ للسياسية التركية، وربما يكون ذلك باتجاهين: الأول، إيصال رسالة للجميع، وعلى رأسهم تركيا، بأن هناك فصلًا واضحًا لدى الدولة السويدية، بين تحقيق المصالح العُليا بالانضمام لحلف الناتو، وبين عدم التنازل عن قيم الدولة الديمقراطية المغلوطة بالمفهوم السويدي. والثاني، ربما تسعى السويد لاستفزاز تركيا بشكل خاص، والذهاب الى سياسة ممارسة اقصى الضغوط السياسية والدينية؛ لتسريع عملية التفاوض لقبول عضويتها في الناتو، خاصة بعد الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، وما رافقها من فشل في صد التمدد الروسي، وغياب أي افق دبلوماسي لحل الازمة، حتى الآن، وايضًا يمكن اعتبار إعادة التموضع التكتيكي لقوات فاغنر في روسيا البيضاء، والتي لا تبعد أكثر من ١٠٠٠ كلم عن السويد، قد ساهم من تعزيز صلاحية اعتبار هذا الدافع.
ومن المُمكن ايضًا، اعتبار أن السويد لا ترغب بتقديم أية تنازلات في ملف حزب العمّال الكردستاني، وقانون الإرهاب خلال عملية التفاوض الجارية حليًا مع الاتراك للانضمام لحلف الناتو لاعتبارات استراتيجية؛ تتمثل باعتبار الحزب ورقة ضغط "دائمة" ضد تركيا، يتم اللجوء اليها كلما اقتضت الحاجة، وذلك لعلم السويد بأنه لو تم تخيير تركيا بين: اصدار قانون سويدي مُلزم، يعتبر الاعمال والممارسات العدائية ضد معتقدات المسلمين في السويد محظورًا، وغير مسموحًا به، ولا يدخل ضمن حرية التعبير، وبين تسليم بعض المطلوبين من الحزب الآنف ذكره للسلطات التركية، فإن تركيا بلا شك – وانا اعتقد ذلك ايضًا – ستختار الخيار الأول، لاعتبارات تاريخية، تعود لجوهر الخلافة العثمانية، ولدوافع عقائدية وقيميّة تسمو فيها على الاعتبارات السياسية. وهنا ينشأ الجزء الأهم من هذا المقال، والذي يدفع باتجاه منهجة، وتوحيد الموقف العربي والإسلامي الرسمي والشعبي؛ لإجهاض أي استثمار للابتزازات السياسية السويدية في المُعتقد الإسلامي، عن طريق جعل كلفتها السياسية، والثقافية، والاقتصادية أكبر بكثير من فوائدها المُفترضة.
ردود الأفعال العربية، والإسلامية، على مثل تلك الممارسات كانت جيدة، ولكنها دون المأمول، وغير فاعلة، لاعتبارات آنية، وإعلامية، وفردية، ولخلوها من أي بُعد مادي، قد يلحق ضررًا "سياسيًّا، أو اقتصاديًّا" مناسبًا بالسويد، أو ردع الحكومة السويدية، من التفكير أو الاقدام على أن تكون جزءًا من عملية الانخراط في الإساءة للإسلام من خلال إعطاء الموافقات، وتأمين الحمايات لكل "مهووس" يبحث عن تصدر المواقع الإخبارية، والمنصات الاجتماعية على حساب الإسلام ورموزه. لذلك، يترتب على العرب والمسلمين مسؤولية دينية، واخلاقية، وحضارية، لوقف مثل هذه المُمارسات من أن تكون برعاية حكومية، أو قابلة للتبرير من خلال منصات إقليمية أو اممية.
إن وجود أكثر من ٥٧ دولة عربية وإسلامية من أصل ١٩٣ دولة في العالم، والتي تنتظم بشكل فاعل في منظمات دولية وإقليمية، يجعل من فرص نجاح التنسيق، والفاعلية، كبيرة، خاصة أن الموضوع يتعلق بالقرآن الكريم، والرسول، صلى الله عليه وسلّم، بمعنى أنه يسمو فوق أي خلاف فرعي سنّي – شيعي، أو مصالحي جوهري سياسي – اقتصادي.
ما الذي يمنع منظمة التعاون الإسلامي، أو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أو الازهر الشريف، أو جامعة الدول العربية، وغيرهم من ذوي الصلة، من التنسيق المُشترك، والاتفاق على إصدار قوانين مُلزمة للأعضاء، تسعى اولًا، لتكثيف الجهود الدبلوماسية المُشتركة؛ من خلال المنظمات الدولية، واستثمار الثقل الاقتصادي والسياسي التي تتمتع به؛ للدفع بسن تشريع أممي؛ يمنع الحكومات من تبني سياسات متساهلة، تسمح بازدراء الكتب المقدسة والانبياء، واعتبارها خارجة عن نطاق حرية التعبير. وبالرغم من أن هذا قد يأخذ وقتًا، ولكن الإصرار عليه، وربطه بالمنافع السياسية والاقتصادية للدول ذات المواقف المُتصلبة ضد هذا المُقترح من شأنه أن يكون منتجًا في مرحلة ما. وثانيّا، سيكون، وبشكل أكثر سهولة، الاتفاق الإسلامي الداخلي، وبشكل مُلزم للأعضاء ايضًا، على تبني قرارات، وإدماجها ضمن الأنظمة، والقواعد التأسيسية، والناظمة لعمل تلك الدول والمنظمات، تشمل ممارسة الضغوط الثقافية، ونهج المقاطعات الاقتصادية، للوصول إلى الضغوط السياسية، مع أي دولة، تتبنى بشكل مباشر أو غير مباشر سياسات تحريضية، أو ممارسات تتعّرض للإسلام سواءً للقرآن الكريم، أو لرسوله الأمين، على أن يشمل ذلك عدم إهانة الرموز الدينية الأخرى لمختلف الشرائع.
إن اتخاذ مثل هذا الموقف، سيكون له ايضًا نتائج غير متوقعة من شأن تقريب الشعوب أكثر من أنظمتها، فالشعوب، ليست في حالة تامة من الرضى حول تعامل دولهم فرادى، ومنظماتهم مجتمعة، مع حدث يرقى لإهانة ما يقرب من ٢ مليار مُسلم. فلك أن تتخيل النتيجة الطبيعية، لو أن هذه الدول ال ٥٧ استفاقت، واتخذت قرارات فاعلة؛ تهدف لردع انسياب مثل هذه الممارسات، بإعلان أن الدول الراعية لذلك، سوف يتم وقف المشاريع الاقتصادية، والثقافية، والسياسية القائمة معها، وسوف تُحرم في المستقبل، من أي فرص استثمارية باتجاهين، ومن التبادل الثقافي، والتعاون العسكري، وصولًا لإجراءات سياسية تتمثل ب تقليص التبادل الدبلوماسي إلى الحد الأدنى.
فبالنظر للتنوع الجغرافي، والثروات والفرص الاقتصادية، والثقل الديموغرافي، فإن مثل هذه الإجراءات سيكون لها نتائجها المُثمرة، ليس فقط على الصعيد الخارجي، بل على الصعيد الداخلي الإسلامي، وذلك من خلال توسيع دائرة التوافق، والقواسم المُشتركة بين قيادات هذه الدول، والتي سيكون لها ارتدادات إيجابية، على قضايا المُسلمين والعرب المُهمشين في فلسطين، وبورما، والهند، والإيغور في الصين، وفي كل مكان. حيث يمكن للمنظمات الإسلامية والعربية أن تقود دورًا بارزاً من شأنه أن يُعزز من بلورة وإنتاج تلك الجهود وانجاحها، كما يمكن ايضًا أن تلعب تركيا دورًا محوريًا؛ لاعتبارات حاجة السويد اليها بشكل متزايد لدخول حلف الناتو، ولوقوفها وراء جهود دولية لم تنضج بعد لإصدار تشريع يُجرم مثل هذه التصرفات. ولكن، هل ستتشكل الرغبة، والإرادة لدى المُنظمات الإسلامية لحفظ كرامة دينها، والذي به ومن خلاله، تُحفظ كرامتهم؟