حوّل ستالين كازاخستان إلى "مكبّ" لمن رأى فيهم "نفايات" الاتحاد السوفياتي...حتى أصبح البلد الصغير من حيث سكانه (أقل من 20 مليونا اليوم)، اللامتناهي في مساحته، إلى فسيفساء من 130 قوما وطائفة وعرقا ودينا، سبعون بالمئة من سكان البلاد الأصليين، الكازاك، وأقل بقليل من 20 بالمئة من الروس الذين نفاهم لاستصلاح أراضي الشمال وزراعتها، والبقية موزعون على عدد وافر من الأقليات، منهم كوريّون من أسرى الحروب، وألمان الفولغا، وكرواتيون، وغيرهم من الأقوام والإثنيات والطوائف، ثلاثة أرباع السكان من المسلمين، وربعهم تقريباً من المسيحيين، غالبيتهم من الأرثوذكس.
صدمتني هذه المعطيات وأنا أطأ البلاد لأول مرة، آتٍ إليها من منطقة تعد نفسها منكوبة بتعدد طوائفها وأقوامها ودياناتها، مع أن تعدد الكيانات والمكونات في أكثر دول المشرق والهلال الذي كان خصيباً، (العراق، سوريا ولبنان)، لا يتعدى العشرين مكوناً، فلا نكاد نخرج من حرب أهلية، حتى ندخل في أخرى، فيما رياح الانقسام والتقسيم، ما زالت تهبّ علينا، تحت شعارات فيدرالية و"لامركزية معمّقة" وغيرها...لم أر التنوع العرقي في بلد علماني، برغم أن غالبيته سكانه من المسلمين، سببا عميقاً للقلق والتحسب، إذ يجري الاعتراف بحقوق كل المكونات، وتُباح ممارسة الشعائر الدينية لكل منها، وثمة ما يجمعهم ويثري اجتماعهم، أكثر بكثير مما يفرقهم.
وللحقيقة والانصاف، فإن مبعث "التحسّب" الوحيد للسياسة الداخلية الكازاخية، هو وجود أقلية وازنة من الروس، رغم أن الروسية معترف بها كلغة رسمية إلى جانب الكازاخية، لكن ثمة تخوفات دفينة، من خطط روسية امبراطورية - توسعية، تستند إلى نظرية استرداد "المجال الحيوي" لروسيا العظمى، وربما تفكر بهؤلاء بوصفهم رأس جسر للعبور إلى البلاد من شماليها.
(2)
الكازاك، هم امتداد لمروحة واسعة من القبائل التركية التي سكنت المنطقة قبل قرون من الزمان، واسمهم مشتق من "الحرية"، وكازاخستان، تعني بلاد الحرية أو بلاد الأحرار، وثمة أسطورة تتحدث عن إلاه ظهر في سهوبها، ومنح الحياة لأول كازاخاي، ومن ذريته تفرعت القبائل الكازاخية اليوم، وهم برغم احتضانهم لأكثر من ستة ملايين من غيرهم، إلا أنهم أنفسهم، موزعون على الدول المجاورة، وصولاً إلى إيران، حيث لا تكاد تخلو دولة من دول الجوار، من أقلية كازاخية حتى يومنا الحاضر.
مع نهاية العهد الستاليني، وبداية عهد غورباتشوف، ستكون كازاخستان قد فقدت ما يقرب من مليوني مواطن من مواطنيهم، إما كضحايا للقمع الستاليني ذائع الصيت، أو كنتيجة للحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، لم تظهر نزعات انفصالية ذات مغزى في هذا البلد، بل كان الأخير الذي سيعلن استقلاله عن الاتحاد السوفياتي، بحكم أن زعيمه كان رجلاً نافذا في موسكو زمن غورباتشوف، ومن بعده بوريس يلتسين، وكان من أنصار الحفاظ على الاتحاد السوفياتي القديم، وربما بسبب هذا الإرث، ما زالت أستانا تنظر لعلاقاتها مع موسكو، بوصفها علاقة استراتيجية، مع أنها خطت خطوات كبيرة على طريق تنويع علاقاتها وتحالفاتها، من واشنطن وبكين إلى بروكسيل ودول الجوار.
(3)
لم يكن نور سلطان نزاربايف، محبوباً من قبل الغرب المنتصر في "الحرب الباردة"، سيما بعد أن أطلق هذا الغرب، صيحته عن "الرجل الأخير ونهاية التاريخ"، فالرجل لم يكن "ديمقراطياً" وفقاً لـ"الكاتالوجات" الأنجلوسكسونية، بل وربما وفقاً لأي كاتالوج، كان ديكتاتوراً، ولكنه بلغتنا المستمدة من تراثنا، كان "المستبد العادل" لكازاخستان، وراعي نهضتها الحديثة، حكم البلاد لثلاثة عقود تقريباً، لكنك بعد رحيله عن السلطة بسنوات، ستجد "بصماته" في كل مكان في العاصمة التي أنشأها على الضفة الجنوبية لنهر إيشيم، وحملت اسمه حتى لسنوات قليلة خلت...لقد تداعت الذكريات في مخيلتي، فعند زيارتي الأولى لـ"لينينغراد" ، أواخر العهد السوفياتي، وجدت روح وبصمات بطرس الأكبر في مختلف زوايا المدينة، وأسفت، وأنا اليساري العربي المتحمس، لتغيير اسم المدينة، وسعدت عندما استعادت اسمها الأول: "سانت بطرسبرغ"، أستانا هي مدينة "نور سلطان"، حتى بعد أن استعادت اسمها التاريخي كقرية صغيرة على الضفة الشمالية للنهر.
وعلى "سيرة المستبد العادل"، كان الأمر موضع نقاش مع زميلٍ مغربي كان في عداد الوفد الإعلامي المرافق لمنتدى أستانا العالمي، حين سألته: ما بالنا في العالم العربي، لا الديمقراطية "زابطة"، ولا "المستبد العادل متاح"، لقد سقط العدل عن مستبدينا، وتحولت جيوش الجنرالات والسلالات الحاكمة، إلى أهم مصارف تبديد ثروات شعوبنا، فصرنا كالمنبت، لا ديمقراطية أدرك، ولا تنمية حقق، ولا ثقة بالحاضر والمستقبل... لقد أدخلوا شعوب أمتهم في مغامرات هوجاء، وحروب بينية لا تنتهي، قضوا على الزرع والضرع، وما زالوا يتحكمون برقاب البلاد والعباد.
هنا، أفتح قوسين للتذكير بنقاش كنت أجريته في كوريا الجنوبية ذات زيارة لسيؤول، مع أصدقاء كوريين وعرب، حول لغز خروج المارد الكوري من قمقم مزارع الرز، إلى أعلى ذرى تكنولوجيا المعرفة والمعلومات والاتصالات في فسحة من الزمن لم تتخط الأربعة عقود فقط، فكان الجواب: ديكتاتور حكم البلاد بعد حرب الكوريتين إلى أن بلغت ضفاف مجموعة العشرين، ثم وجدت البلاد نفسها في ممر انتقالي حتمي نحو الديمقراطية بأعلى معاييرها، كما هي عليه اليوم.
في العالم العربي، كدنا مع جمال عبد الناصر أن ندخل عصر "المستبد العادل"، لولا المغامرات الجانبية (اليمن مثالاً) واستعجال الشيء قبل أوانه (مشاريع الوحدة الطائشة والقسرية)، لكن مصر في عهده، ستشهد تفكيك الاقطاع واستكمال التحرر الوطني والتصنيع و"السد العالي"، ولم يحسن من جاءوا بعده، البناء على "التراكم البيروقراطي لرأسمال" وجاء عهد السادات، ومن بعده سنوات "الركود المباركي" والجنرال السيسي، فتتحول مصر إلى رجل العالم العربي المريض.
وأكره أن أصارحكم، بأنني بتّ من الداعين لله، بأن يرزق بلادنا ومجتمعاتنا العربية بمستبد عادل، من طراز من قادوا نمور آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، توطئة لمرحلة الانتقال للديمقراطية بعد استكمال بنيتها التحتية الاقتصادية والاجتماعية، ولقد صرت أكثر قناعة بهذه المقاربة، بعد انهيار التجربة تونس، "أول الربيع"، وتولي مستبدٍ "متفيقهٍ"، مقاليد السلطة فيها، وبصورة لا تخلو من هزلية – كاريكاتورية.
(4)
ونعود إلى كازاخستان، بعد هذه التداعيات الداهمة، لنقول أن البلاد التي يشكل اقتصادها حوالي 60 بالمئة من اقتصادات آسيا الوسطى، تعيش ثورة التكنولوجيا وروح العصر، وبسرعة متعاظمة، وهي تجد نفسها على اعتاب مرحلة انتقال ديمقراطي، ما زالت في بواكيرها، لقد عدلوا الدستور وأجروا انتخابات تعددية، وثم انتخابات رئاسية، كرست زعامة قاسم جومارت توكاييف، والبلاد معنية اليوم، أكثر من أي وقت، بالاندماج بالنظام العالمي، ومشاريعها منصبّة في هذا الاتجاه، وهي تدرك أن انفتاحها على الغرب سيكون أسهل بعد إنجاز سلسلة من الخطوات الإصلاحية والانفتاحية، لكنها تدرك في الوقت ذاتها، أن لديها جواراً "عملاقاً"، الدب الروسي والتنين الصيني، لن يكونا مرتاحين إن هي ذهبت إلى آخر الشوط، وبأسرع مما يحتملون، وكما في السياسة الخارجية التي قلنا في وصفها بأنها "رقصٌ مع أسماك القرش"، فإن السياسة الداخلية، حافلة بدورها بكثير من الحفر والمطبات، إن اختل ميزانها.
(5)
لقد أتيحت لي فرصة اللقاء مع وزير الاقتصاد الرقمي في غرفة عملياته" المزنرة" جدرانها الأربعة، بالشاشات العملاقة، وأظنه أصغر وزير سناً التقيته في حياتي، حيث عرض لنا كيف أن 80 بالمئة من الكازاخ، يتلقون خدماتهم الحكومية على هواتفهم المحمولة، من التهنئة بالمولد الجديد وشهادة ميلاده و"رقمه الوطني" والمعونة الوطنية إن كانت عائلته محتاجة، إلى مختلف عمليات البيع والشراء وتوثيق العقود والمعاملات المصرفية .... البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، هذا هو انطباعنا المشترك، نفرٌ من الصحفيين والإعلاميين وأنا، الذين كنا في ذلك اللقاء المشوّق.
(6)
يُصر زملاؤنا المصريون على التحلي بروح النكتة في حلّهم وترحالهم، أحدهم لفرط إعجابه بجمال وحداثة ونظافة العاصمة أستانا، قال إنها مدينة "ما زالت بالكرتونة أو النايلون"، يمكنك إزالته عن بعض مبانيها العصرية، لكن أصدقاءنا الكازاخ ما زالوا على حبهم الأول، للعاصمة الأولى: ألماتي، فهم لطالما تحدثوا عن أصالة المدنية وعبقها التاريخي، ولم يتح لي للأسف في زيارتها، لكنها بالقطع ستكون على جدول أعمال زيارتي الثانية.
وثمة "لغز" سياسي كامن وراء نقل العاصمة، من أقصى جنوبي البلاد، على حدودها مع قرغيزيا، إلى وسطها، إنما يعود لرغبة الرئيس المؤسس، بأن يكون على مقربة من مختلف مكونات البلاد، بالذات ذوي الأصول الروسية، للحفاظ على وحدة البلاد وتماسك مجتمعها الأهلي.
(7)
شأنها شأن دول الخليج النفطية، تدرك أستانا أن عصر "الهيدروكربون" قصيرٌ مهما طال، لذا نراها تسارع الخطى لتنويع مصادر دخلها، وتوظيف "الجيوبوليتك" لخدمة هذا الغرض، وخلق بنية من المصالح والبنى التحتية، تحتاجها جميع الدول المتنافسة إقليمياً ودولياً، وتشكل أساساً لأمنها القومي واستقرارها، من مشاريع الطاقة المتجددة إلى مشاريع المياه، في بلاد تتوفر على عشرات الأنهار ومئات البحيرات، وطرق النقل العابرة بين آسيا وأوروبا: "عابر قزوين"...أما نافذة الفرص لجذب الاستثمار الأجنبي فتزداد اتساعاً، حتى أنه بات بمقدورك وأنت الأجنبي المقيم خارج البلاد، أن تفتتح مشروعك الخاص وتزاول العمل، عن بعد، وبوقت قياسي كما أبلغنا وزير الاقتصاد الرقمي.
(8)
نجحت كازاخستان في تخطي موجة المد السلفي – الوهابي، بأقل قدرٍ من الخسائر، وبنت جدران في وجه "شيوخ السلفية الجهادية"، واحتكرت الدولة الفضاء الديني ... لم يلتحق بداعش أو القاعدة، سوى أعداد قليلة جداً من "المجاهدين الكازاك"، وتجري عمليات رقابة على بناء المساجد والتمحيص في مصادر الأموال المرصودة لها، والمناهج التي تقدم فيها، والأئمة الذين يتولون رعايتها والإشراف عليها، بخلاف الحال في معظم، حتى لا نقول، جميع دولنا العربية.
البلد سعيد بإرثه الإسلامي، واسم الفارابي يطلق على كثير من الأمكنة والقاعات، وصورته مرسومة على بعض فئات عملتها الوطنية، لكن هذا أمر، وترك البلاد نهباً لفرسان "الجهاد العالمي" أمر آخر.
(9)
وأخيراً، أكثر ما يلفت نظر الزائرين، شيوع أطباق لحم الحصان على موائد الكازاخيين وفي مطبخهم، ولا أظن أن قصص حاتم الطائي وذبحه حصانه لزوار آخر الليل تثير دهشتهم واهتمامهم، فأكثر اللحوم الباردة، يدخل في صنعها لحم الحصان، والأطباق الرئيسة على الغداء والعشاء، لا تخلو من لحم الحصان، وأفضل ضيافة عندما تزور مرابع الصقور والخيول، هو حليب الحصان، الذي يمتاز عن بقية أنواع الحليب، بمذاقة الحامض نسبياً، هم أهل الخيل والنسور، أبناء الأسطورة الكازاخية عن الإله الذي منح الحياة لشعب هذه البلاد.