في دقيقة، أو ربما أقل ،وما أصعبها، كان على الشهيد الطيار ،علي الحراسيس، أن يختار : إما أن ينجو بنفسه، وإما أن يتمسك بمقود طائرته لتسقط في العراء، بعيدا عن البيوت الآهلة بالسكان ، بمجرد أن خطف نظرة سريعة ، اختار الثانية . الموت بالنيابة عن مئات الأردنيين وفداء لهم ، أقرب طريق إلى الله ، و إلى الوطن أيضا .
هكذا يفعل الأردنيون النشامى ، فالبطولة ليست مجرد كلام عابر في الندوات والمجالس ، ومنصات التواصل ، وإنما افعال وتضحيات ، سيظل التراب الأردني شاهدا عليها ، وعلى دماء الشهداء ، إذ تؤذّن فينا ، حيّ على العزة والكرامة.
هذا الدرس ،لا يفهمه الا الأردنيون الطيبون ، وهو وحده من يجيب على الأسئلة التي ترددت في بلادنا منذ سنوات ، وما تزال مُعلقة بلا إجابات : لماذا صمدنا و تحملنا وصبرنا ؟ ولماذا توحدنا بوجه الأزمات والعاديات ؟ صحيح ، لدي الأردنيين عتب ، وربما غضب ومرارة ، على إدارات الدولة ونخبها، لكن لديهم ، مثله واكثر ، انتماء وعشق للوطن .
ما فعله البطل الشهيد الحراسيس ، وقبله شهداء القلعة والسلط والبقعة و اربد والركبان ، وقبلهم شهداؤنا في فلسطين والقدس ، هو وحده من يجيب على مثل هذه الأسئلة ، الأردني بطبعه وطني بإمتياز ، لا يقبل لوطنه أن يهون او يُهان ، وحين تدق ساعة الخطر ، يطرد من صدره العتب والغضب على كل شيء ، ويلبي نداء الواجب ، ثم ينهض للتضحيه من أجل الأردن العزيز ، بكل غال لديه ونفيس.
رسالة البطولة والإيثار ، المجبولة بالشهادة التي سجلها الشهيد الحراسيس ، يجب أن تفتح عيوننا وقلوبنا على عنوان واحد ، وهو "الأردن " الذي ليس لنا غيره ، الشهداء لا ينتظرون منا ،فقط، مزيدا من الحزن والإحساس بالفقد ، كما أنه اهلهم ومحبيهم لا يريدون أن نتقاسم معهم الوجع ، هذا اقل الواجب ، الرد على رسالة البطولة والشهادة ،و تعزية أكباد الأمهات والآباء والأبناء المجروحة، أن نفعل كل ما بوسعنا ليبقي الأردن واحدا موحدا صامدا ، وتبقى الكرامة : كرامة الوطن وكرامة الأردنيين محفوظة ، وهاماتهم مرفوعة، ثم إنك نطرد اليأس والشك ، ونخرج من دوائر السواد العام ، لنباشر البناء ، ونضع الحجر الوطني في مكانه الصحيح ، و نحمي بلدنا من كل سوء .
الرسالة ،ذاتها، يجب أن تصل لإدارات الدولة ، ومعها نخب المجتمع، من أجل أن تصحو الضمائر ، وترد بوضوح على تحية الأردنيين بمثلها ، أو باحسن منها، فنحن -أقصد الأردنيين - ننتظر اللحظة التي يتعلم فيها المسؤولون من الشهيد الحراسيس ورفاقه ، كيف يطردون أنانية التمسك بالنجاة والخلاص الفردي، كيف يخدمون بلدهم لا الكراسي التي يجلسون عليها ، كيف يغادرون منصات تصفية الحسابات ، والرعب عند اتخاذ القرارات ، والبحث عن مزيد من الامتيازات، إلى حيث التوافق الوطني والصالح العام ، و الاستثمار بالخلق الأردني "الوعر " ، فلا استهانة ، ولا معاندة، ولا فرض للوصايات، ولا إنتظار المزيد من الوقت لاختبار صبر الاردنيين .
هذه أفضل وصفة لاستعادة الثقة والعافية ، وتعزيز الوئام الوطني، و جبر الخواطر المكسورة ، كما أنه اقل الواجب لتقديم العزاء بأرواح الشهداء، لآبائهم وأمهاتهم ، ترى : هل وصلت رسالة الشهيد الحراسيس ورفاقه رحمهم الله؟ارجوذلك.