... استشهد الرائد الطيار علي الحراسيس، وتلك المرة الأولى التي نشاهد فيها فيلما لسقوط طائرة (الكوبرا)...ومع وصولها الأرض، لم يكن في قلوبنا سوى جملة: (يا الله اتسلمهم)...لكنه قدرك يا علي، وقدرنا نحن أيضا...
كبدي ينزف، وأنا لا أكتب مرثية..ولا أخط بدمعي مقالا، ولكنه علي..علي الأسمر (الحلو) علي الذي صعد من هضبات الطفيلة، ومن أعلى سواريها...صعد ليكون طيارا في الجيش، ويلوي شعفة المستحيل...ويلوح بكفه الحانية للصبية الذين كانوا يراقبونه على الارتفاعات المنخفضة، ويقرأ كلما صعد صهوة الكوبرا: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين)..علي الأردني، أحلى فتيتنا...وابن الشعب، وابن الجيش....وابن الهوى حين لايعرف مسارا أو دربا غير درب الأردن.
كبدي ينزف يا علي...وأنا أعرف أنك حاولت ثني اللجام، أعرف يا علي أنك حاولت أن تجعلها (تنوخ) مثل الجمل، وأعرف أنك ذكرت اسم الله وأطلقت الشهادة، وهي تتجه صوب الأرض..وأعرف يا علي أن دمع الرفاق في السرب (غالي)..وأعرف أنهم سيفتقدون طلتك وسمرتك، وضحكاتك..سيفتقدون توزيع المهام...وسيفتقد الضباط الجدد ساعات التدريب..التي كنت ترافقهم فيها، وأعرف...أن موعد الغداء في القاعدة حين يأتي، لن يتناول أحدهم غير الماء، لأن مكانك صار فارغا..إلا من الحزن، وما أعرفه يا علي..أن المدرج سيفتقد فروسيتك يوم كنت تصعد بها، (ويجفل) الغيم ?ن صعودك....وأعرف يا علي أن ضباطا بمثل رتبتك وبمثل سمرتك، وبمثل عنفوانك...سيذهبون خلسة، لزوايا الغرف في القاعدة..ويذرفون دمعة حره عليك، لأنك كنت الفتى الذي ما طوعته الغيوم، لا بل سرقت من سمرتك القليل..الغيم يا علي حين كنت تحلق، كان يتمنى أن يكون أسمر مثلك..
كبدي ينزف...أوجعتني، لقد شاهدت فيلم سقوطها ألف مرة، والف دمعة ذرفت وألف دعوة أطلقتها كي (يسلمك) الله أنت وزميلك، لكنه اختار لك عليين..لتكون فيها شهيدا مطهرا نقيا، لكي تكون فيها الهوية والمنحنى والنخل والماء العذب..ولكي تكون ساريتنا العالية، وكتابنا ولحننا والمدى.... وستبقى أنت ممثل (حزب القايش)..ستبقى أنت، المعبر عن زيتونات الطفيلة..أنت وحدك يا علي ستطل كلما ذكرت أسماء الشهداء بنظارتك السوداء، ستطل علينا..وتخبرنا أن درب الجيش صعب، وستخبرنا أن الموت لايخيف فتية امنوا بربهم وارتضوا تراب الأردن، مسارا للصبر..?وأطهر المبادئ، وجعلوا الصوان فيه أغلى من التبر.
كبدي ينزف يا علي...وتذكر وليتذكر الكل، حين يطوي النسيان المدى..وحين تصبح الأخبار قديمة، وحين تنهي الإذاعات بثها..وحين يذهب الكل للنوم...تذكر وليتذكر الكل أننا وحدنا من ندفع الدم...وحدنا من ندفع الدم، يا علي...أنت لم تكن ضابطا..كنت جبلا أردنيا..كنت الصحراء والنهر والقصيدة، وعلمت هذا الجيل معنى الجيش ومعنى الفداء ومعنى الوطن...
وسنبقى وحدنا من يدفع الدم، فيا مرحبا بالدم إن كان لأجل الأردن والجيش..