لا يكاد يمر يوم الا ونسمع عن مداهمات أمنية يتم فيها القبض على مجرمين خطرين يتاجرون بالمخدرات او يروجونها، كما ان حدودنا تتعرض لعمليات تهريب مستمرة للمخدرات ( حرب ان شئت الدقة)، استخدمت فيها مؤخرا طائرة مسيرة، وقد تم اسقاطها، ما يعني أن هذه التجارة أصبحت تحظى بـ»مراكز» لها من القوة والنفوذ، داخل بلدنا وخارجه، ما يمكّنها من التمدد و (الازدهار)،.
واذا كان لكل سلعة مهمة تجار كبار يحتكرون استيرادها وتوزيعها، ولا يسمحون لأي منافس آخر بالدخول الى أسواقها، و»المخدرات» ليست استثناء عن هذه القاعدة، فإن لدينا، بالتأكيد، «أباطرة» مخدرات، ظاهرة الاباطرة عابرة للحدود والقارات، ولا تخلو منها أي دولة تعاني من هذه المشكلة، وإذا كانت المخدرات قد تحولت إلى «اقتصاد» معتبر يدر عشرات المليارات سنويا في بعض الدول المجاورة، ولدى بعض التنظيمات الإرهابية، فإنها اقتحمت، أيضا، مجالات البزنس السياسي، وأصبحت جزءا منه، وتحت مظلة نفوذه وحمايته.
في الأردن، حسب احصائيات العام2022، تم تسجيل نحو 19 ألف قضية مخدرات، ضبط من خلالها، 27245 شخصاً، منهم 9591 شخصاً اتهموا بالاتجار والترويج وكان بحوزتهم 327 قطعة سلاح فردية أو أوتوماتيكية و87 مركبة لنقل المواد المخدرة وتم مصادرتها، ويتوزع المتعاطون على بيئات مختلفة، منها الجامعات (18 %)، والمدارس (13 %)، والأماكن العامة (34 % )، وفق دراسة اعدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي قبل 5 سنوات.
هذه الأرقام مفزعة من جهتين: جهة اعداد المتعاطين وتصاعدها سنويا، وفئاتهم العمرية حيث ان معظمهم من فئة صغار السن والشباب، وجهة الأماكن والبيئات التي دخلت إليها المخدرات، ومن بينها المدارس والجامعات وأماكن العمل، ومن ثم الجرائم التي يرتكبها بعضهم (آخرها شاب قطع رأسه والدته).
في موازاة ذلك، انصب الجدل الذي شاهدناه مؤخرا على مشروع قانون المخدرات حول مادة واحدة تتعلق بـ»السابقة الجرمية» والقيد الأمني بحق مرتكبي الجريمة للمرة الأولى، هذا النقاش ربما يكون مفهوما في سياق المطالبات بتغليظ العقوبة لجميع المتورطين في عملية المخدرات.
لكن اختزال المسألة بالقانون فقط، كرادع وحل للمخدرات التي تحولت من محطة «مرور» وعبور إلى شبه ظاهرة تتمدد في مجتمعنا، يحتاج إلى وقفة عميقة، فالقانون ومعه أذرعة الأمن التنفيذية، قد يكون جزءا مهما من الحل، لكن ثمة أماكن أخرى يفترض أن نذهب إليها لمواجهة المخدرات ومحاصرة انتشارها.
يكفي أن نسأل هنا عن الواجبات المفترض أن تنهض بها الأسرة والمدرسة والجامعة، ومؤسسات التوجيه الديني والثقافي والإعلامي، وعن عدد مراكز علاج الإدمان والمخدرات (يوجد لدينا مركزان فقط لا يستوعبان أكثر من 200 شخص) وعن غياب الرقابة الحقيقية عن الأماكن التي تنتشر فيها المخدرات كالمقاهي والأندية الليلية والرياضية.
والاهم ايضا «حالة» مراكز الإصلاح وما يتلقاه سجناء المخدرات من تأهيل، ومن رعاية لاحقة بعد خروجهم منها (أكثر من 50 % يكررون الجريمة)، هذه الأماكن وغيرها ما تزال بعيدة عن نقاشاتنا العامة، وعن «أجندة» الحلول التي يفترض أن نضعها لمواجهة المخدرات كجريمة أولا، وكمرض وكارثة اجتماعية أيضا.
بقي لدي ثلاث ملاحظات، الأولى تتعلق بمصادر التهديد، حيث تشكل الحدود مع الجنوب السوري أخطر نقطة في الوقت الراهن، أذ تنتشر في هذه المنطقة، وفق مصدر رسمي، مجموعات كبيرة من منتجي وتجار المخدرات، وهؤلاء يمارسون يوميا عمليات التهريب إلى داخل الأردن.
الملاحظة الثانية تتعلق بالجهود الجبارة التي يبذلها منتسبو القوات المسلحة الأردنية وجهاز الأمن العام (مكافحة المخدرات) لمواجهة هؤلاء التجار والمهربين، ولولا هؤلاء النشامى البواسل لغرق بلدنا بالمخدرات، وهم يستحقون التقدير والشكر فعلا.
اما الملاحظة الأخيرة فهي أن السؤال عن «أباطرة» المخدرات وضحاياها، وعن أسواقها وامتدادها إلى معظم المناطق في بلدنا، يستدعي أيضا أسئلة أخرى عن واقع الشباب في بلادنا، وعن معاناتهم مع البطالة والفقر، وعن دور مؤسسات المجتمع المدني المشغولة بأجنداتها الخاصة عن هذه «القضية» التي تشكل أخطر تهديد أخلاقي واجتماعي لمجتمعنا.