قبل أكثر من أسبوع، وكأي مواطن في العالم، كنت وعبر هاتفي أتصفح الويب، وما يجود به من سيل التفاهة وغيرها، وكما تعلمون لا يكلفكم الأمر من جهد سوى حركة من إصبعك، وأكاد أجزم بأنها حركة هي بدورها لا إرادية رغم تحكمك الفيزيائي بها، ومن بين ما صادفني فيديو لكائن عربي، يقذف انفعالاته على طريقة مقدمي فقرات السيرك، وتحت عنوان: ارمي موبايلك لو ما كنتش تعرف هذه الرموز او «الأكواد»... ويتصنع الشاب كل ما يمكنه ليبدو الحديث مثيرا..
هذا رقم تكتبه على هاتفك بعد او بين المربع والنجمة، وهما رمزان عرفناهما في لغة البرمجة هاش#، و ستار *، للتقريب في ذهن المبرمج المبتدئ بين لغة الآلة وبين بعض «الدالّات.. او الدوال» ، واليوم أصبح اسمها شعبيا خاليا تمام من أية إشارة او علاقة بتخصص ذهني او علمي، تماما كما يقال بكسة بندورة، او سطل ماء.. هو شيء أو أمر او تعبير أصبح مألوفا في سوق شعبية.
منذ أكثر من عقدين وأنا أطرق «خلال مناسبات» باب الحديث عن الخصوصية والأمن البياناتي أو المعلوماتي، ودوما أطرق هذا الباب أسفا على التخلف، والسير في ذيل المسيرة العلمية والحداثوية، ونحن «كعرب وعالم ثالث وعاشر» ومهما قمنا بتشغيل الأجهزة الإلكترونية، ومهما اعتقدنا بأننا ملكناها وفهمنا كيف تعمل، فأنا متأكد بأننا لن نفهم منها شيئا ما دمنا لم نقم بصناعتها، ولا بإنشاء لغاتنا الخاصة بالبرمجة، ولم نقم بحماية بياناتنا من خلال تقنيتنا وبرامجنا الخاصة.. لن نغادر مهمة و»مهنة» المستهلك المغلوب على أمره للتكنولوجيا، وهو أي نحن نمثل المستهلك المثالي لمنتجات هذه السوق، حيث لا ندفع فقط ثمن سلعها الذي يصل إلينا مرتفعا جدا عن كلفتها وسعرها في بلدانها، بل أيضا نحن نصبح سلعها مع الوقت، فهي التي تقودنا وتجعلنا ننخرط في نظام استهلاكي رسمته لنا الشركات وقوى السوق العالمية.
في ظل هذه الحقيقة التي تتأكد حتى لأغبيائنا وأغبياء العالم كل يوم، يصبح من باب الطرفة والتندر أن تسأل عن الخصوصية، والأمن المعلوماتي الشخصي، فقد قلنا وما زلنا نقول بأن خدمة الاتصال أو مشاهدة شاشة، هي خدمة بسيطة يقدمها هذا الجهاز وتلك التكنولوجيا، ويعتقدها البسطاء والأغبياء بأنها قمة العلم والتقدم، بينما ثمة عشرات وربما مئات الاستخدامات الأخرى لجهاز الموبايل وجهاز الكمبيوتر، يحتاج جمهورنا سنوات ضوئية لبلوغ مستواها وفهمها.. لذلك لا يفاجئني أن هاتفي تحت رقابة جهات تجارية او عصاباتية أو أمنية ما، لكن هذا لا يشغل بالي لأنني لست بهذا الحجم ولا هذه الحساسية والأهمية بالنسبة لماكنات ترصد وتسيطر على الأثير وما احتوى.. من يكترث منا، سوى من كان لا يعلم او لا يفهم، والمطلوب منا جميعا أن لا نعلم او نفهم سوى شراء واستخدام ما تطرحه السوق من سلع.
حتى اليوم لا أسرار شخصية ولا خصوصية في العالم كله، ما دامت هذه الأجهزة بين أيدي الناس، فالذي يركب ويقود سيارة في شوارع المدن يكون غبيا لو تخيّل بأنه وسيارته غير مرئيين، وهكذا هي الهواتف والكمبيوترات، بل إنها يمكن رؤيتها وما حولها وما فيها من مناطق مخفية وبعيدة، بعكس السيارة التي تسير على طرق مخصصة للسير عليها.
أستغرب لهاث بعضنا وراء «خبطات أو جلطات إعلامية» تفقع في عقول السذّج فقط، بينما كانت المهمة المطلوبة منهم تنوير هذه الأمة بالحقيقة وبمقدار تقهقرنا عن العالم الذي يعتاش على غبائنا كما يعتاش على ثرواتنا ودمائنا.
هل تخشى أن تعرف برامج الكمبيوتر موقعك الآن، أو صورة وجهك وتردد صوتك، وكم مسجا سمجة ارسلت او استقبلت، وما هي معالم رحلة إبحارك على غير هدى في الويب؟.. عليك ان تهتم بسؤال: من يكترث بك او يحرص على بقائك مستهلكا جاهلا؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يزعجك، إن كنت حقا ما زلت تنزعج من حقيقة تخلفك عن الحداثة، وجهلك العلم، وعدم قدرتك على الصناعة، أو التصرف بطريقة متحضرة مع شؤونك واحتياجاتك.