يستحق الأردنيون، من إدارات الدولة (دولتهم)، أن ترد عليهم التحية بمثلها، أو بأحسن منها، أقول ذلك ببساطة لأكثر من سبب، الأول ان بلدنا في هذه المرحلة يمر بحالة «استرخاء «، لا احتجاجات في الشارع، ولا اصوات معارضة، ولا مشاغبات في الصالونات السياسية، ما يعني أن الدولة تستشعر قوتها واستقرارها، وتستطيع أن تبعث برسائلها، وأن تنجز من موقع الخيار لا الاضطرار.
السبب الثاني أن الأردنيين عبّروا خلال الأيام المنصرفة، بمناسبة زفاف ولي العهد، عن مشاعرهم العامة تجاه بلدهم وقيادتهم، بما يكفي للاطمئنان على أنهم جاهزون لإعادة الثقة بمؤسساتهم، والخروج من دائرة اليأس والعتب والانكفاء، إلى دوائر العمل والمشاركة والبناء.
أما السبب الثالث فهو ان جردة حسابات الماضي تشير إلى أننا جميعا، إدارات الدولة ونخب المجتمع، أخطأنا، ويجب أن نستدرك ذلك ونتجاوزه، لانه لا يمكن أن نستمر في هذا الاتجاه، وبالتالي لدينا فرصة للتوافق وطي الصفحة، ثم كتابة صفحة اردنية جديدة تتناسب مع مطالب الأردنيين وطموحاتهم، ومع استحقاقات القادم و أخطاره.
أرجو أن لا يقول لي احد :»ما في اليد حيلة «، هذا ليس صحيحا أبدا، لدينا موارد طبيعية وبشرية تكفينا وتزيد، لدينا إدارة عامة ومؤسسات يمكن أن تتحرك وتنجز و تبني البلد من جديد، لدينا شباب أكفاء جاهزون للعمل ومبدعون ومتشوقون لخدمة بلدهم بكل ما لديهم من طاقات، لدينا (وهذا الأهم) شعب أردني يحب بلده ويعتز بقيادته، تحمل كثيرا على مدى السنوات الماضية وصبر، وهو بانتظار من يفهمه ويقدره، ويرفع عنه الوصايات، لكي يأخذ فرصته لإدارة شؤون بلده، أقصد أن يذهب إلى صناديق الانتخابات دون خوف وتردد، ويسجل بالأحزاب، ويلتحم بترابه وارضه ومصانعه، يزرع ويعمل وينتج، ويأكل من عرق جبينه.
الآن، لدينا فرصة لكي نتحرر من أسطورتين صنعهما البعض، مما لا يريدون لنا خيرا، لكي نظل نتلاوم ونتناكف ونتصارع في الفراغ : أسطورة تخويف الأردنيين من بعضهم بعضا، تحت لافتة الجغرافيا والديموغرافيا والمحاصصات والولاءات الفرعية، وأسطورة تخويف النظام السياسي من الأردنيين، وتقديمهم بصورة معارضين عدميين، أو سوداويين غاضبين وناقمين.
لا أبدا يا سادة، لقد أسقطت الأيام الماضية هاتين الأسطورتين، ومعهما كل الفزاعات التي نُصبت لإدامة عجلة التشكيك والقطيعة، وتسويق الكراهية المغشوشة. الأردنيون مع قيادتهم يحبون بلدهم، ويضحون من أجله بأرواحهم، فعلوا ذلك مرارا، وجاهزون للنجاح في أي تمرين سياسي، بشرط أنت تتبادلوا معهم الثقة والمحبة والإخلاص.
ماذا يريد الأردنيون؟ إصلاحاً سياسياً حقيقياً يحرك ماكينة السياسة، ويطمئنهم على مؤسساتهم ومقرراتهم، حياة كريمة تسعف الآباء لتعليم ابنائهم، و توفير ما يلزم لطبابتهم، وللشباب فرصة عمل تخرجهم من الفراغ واليأس، ومصائد الجريمة، عدالة اجتماعية تستقيم فيها الموازين والمساطر أمام القانون، لكي يخضع أمامه الجميع بلا استثناء، حرية تفتح أمام الناس فضاءات التعبير عن الرأي، والتفكير بلا قيود، يريدون، أيضا، إغلاق ملفات أزمات ما زالت عالقة : أزمة المعلمين والموقوفين غير الجنائيين، عفواً عامًا يخفف عن الأردنيين معاناتهم، هل هذا كثير؟
فيما مضى كان لدينا «حساسات» سياسية واجتماعية مكنتنا من تجاوز الأزمات، كما ساعدتنا على استشراف ما يمكن ان يحدث، كان لدينا -ايضاً- وسائط اجتماعية ساهمت في ضبط إيقاع الغضب والاحتجاج، وكان لدينا -ثالثاً- منطق «فليسعد النطق إن لم تسعد الحال» نستخدمه للمصارحة احياناً، وتطييب الخواطر وتهدئة النفوس احياناً أخرى، كان لدينا -رابعاً- مسؤولون يستطيعون ان يواجهوا الناس ويقنعوهم، بالفعل لا بمجرد التصريحات المسلوقة، كان لدينا – خامسا - مفهوم للأسرة الواحدة وخطوط حمراء «للوحدة الوطنية» وأمل في غد أفضل.
بقي، فقط، أن أذكركم بهذه الحقيقة، الأردنيون كلهم: فلاحون ومعلمون، عمال وجنود، تجار ومهنيون وطلاب، فتحوا شرايينهم لكي ترتوي «شجرة» الوطن وتظل دائما باسقة، عضّوا على فقرهم وجوعهم وتعبهم لكي يبقى الأردن سيدا عزيزا، تحملوا فساد الفاسدين، ونهم الذين لا يملأ أعينهم الا التراب، ليظل بلدهم واقفا، ودولتهم قوية، وأمنهم صامدا أمام جحافل الشطار والعيارين. ألا يستحقون أن تردوا لهم التحية بمثلها إذا تعذر أن تردوها بأحسن منها؟