صحيح أن زفاف ولي العهد، الأمير الحسين ، مناسبة اجتماعية ،انتظم فيها الفرح والابتهاج مع التقاليد والمراسيم التي تعكس هوية العائلة الهاشمية ،والأسرة الأردنية ، لكن الصحيح ،أيضا ،أنها كانت مناسبة سياسية ، ازدحمت بالصور والرسائل والدلالات ، وربما تكون المرة الأولى -منذ عقود - التي يتبادل فيها اغلبية الأردنيين مع قيادتهم الرسائل بشكل مباشر ، وبدون وسطاء.
التبادلية ،هنا ، عنوان مهم للثقة والاحترام ، وفرصة لتمتين العلاقة التاريخية ، ونقطة فاصلة للانتقال للمستقبل ؛ هذا الذي نحتاج من أجله أن نفرز من الماضي والحاضر أفضل ما فيهما ، ثم نتجاوزهما بهمة وعزيمة ، واصرار على التقدم والانجاز.
أشير إلى ثلاث رسائل ،على الاقل ، جرى تداولها من خلال زفاف الامير ، بين الهاشميين والأردنيين ، في إطار الأسرة الواحدة ، وقد عكست ، بماحملته من مضامين ودلالات، تقدير الذات الوطنية ، واعتزازها بهويتها وكرامتها ، وعلاقتها مع محيطها العربي والعالمي ، كما أنها عدّلت المزاج الشعبي ، وأيقظت المشاعر العامة ، وكسرت فزاعات اليأس والحزن التي نصبها البعض لإغراق مجتمعنا بالسواد .
الأردنيون استقبلوا رسالة "الفرح الهاشمي "، وردوا عليها بمثلها ، والهاشميون ، أيضا ،أعادوا التأكيد ، من خلال الاحتفال بالطريقة التي تمت، على القيم والمشاعر التي تجمعهم مع الأردنيين ، والمشتركات الوطنية التي تطمئن الجميع على حاضرهم ومستقبلهم ، وتعيدهم إلى لحظة الولادة الأولى لتأسيس الدولة ، حيث انتصرت البهجة ، على آلام المخاضات العسيرة.
الرسالة الأولى التي تم تصميمها بذكاء ، تتعلق بصورة الأسرة الهاشمية ، حيث برز فيها ولي العهد في سياق تقاليد احتفال مزدحم بالاعتبارات والمعاني الكبيرة ، الإنسانية والوطنية معا ، عنوانها البساطة والانحياز للثقافة والقيم والتقاليد الاردنية الاصيلة، والالتحام مع الأردنيين والأردنيات بكافة أطيافهم ، واحترام الذائقة الاجتماعية ، هذه الرسالة جسدت طبيعة الأسرة الهاشمية ، والعلاقة بينها وبين المجتمع الأردني ، وقدمت ولي العهد ،كما هو ، وكما يجب أن يُقدم للأردنيين ، باعتباره يمثل جيل المستقبل و آماله، كما أن الرد عليها ،من قبل اغلبية الأردنيين الذين احتفوا بالامير ، كان بمثابة استفتاء على المستقبل الذي تمثله ولاية العهد.
الرسالة الثانية : كلمة الملك في احتفال العشاء بمضارب الهاشميين ، حيث أوصى ابنه الامير الذي اكمل نصف دينه -كما قال - بأن "تبقى مخافة الله تعالى بين عينيه " ثم أهداه السيف الذي نقش عليه" إن ينصركم الله فلا غالب لكم "، ثلاثية القوة ،والعدل والتقوى ، هنا ، يمكن فهمها في إطارها الديني ، حيث ترسيخ الشرعية الدينية التي يستند إليها الهاشميون بالحكم ، كما يمكن فهمها في الإطار السياسي ، بما تحمله من دلالات الحث على الرشد والحكمة والعدل، باعتبارها أساسيات الملك والحكم .
هذه الوصايا من الاب الملك لإبنه، ولي العهد ، تعكس (خاصة في لحظة الفرح ) خلاصة تجربة ، وضمانات استمرارية ، ومرتكزات اعتقاد سياسي ، يبدو فيها التاريخ حاضرا لبناء المستقبل ، كما يبدو فيها التوقيت مناسبا لتحميل المسؤولية ، فكما أن الزواج مسؤولية لبناء الأسرة ، فإن إدارة الحكم مسؤولية اكبر لبناء الدولة.
الرسالة الثالثة جاءت من اكثر من 70 دولة في العالم، شارك ممثلون عنها بالاحتفال ، وهي تقول باختصار : هذا البلد الصغير يستحق احترام الآخرين وإعجابهم، وهو إنجاز يسجل للأردنيين وقيادتهم، كما أنه يفترض أن يكون مصدر اعتزاز للأردنيين أنفسهم ، ودافعا للبناء عليه بدل التهوين منه وانكاره ، كما يفعل البعض ، أو بدل الاصرار على البقاء في مربعه، كما يريد آخرون ، هذه الرسالة مهمه ، لأنها تساعدنا على تصحيح صورتنا التي نراها في مريانا التي تشوهت بفعل المناكفات و الأخطاء والخيبات المتراكمة ، وهي مهمة ،أيضا ، لأنها تكشف عناصر قوتنا وحضورنا في العالم .
ثمة رسائل أخرى ،بالطبع ، تتعلق بالمصالحة بين الماضي والحاضر والمستقبل ، حيث صور الهوية والتاريخ ، و الثورة العربية ،والقيم والتقاليد الأردنية التي عبرت عنها مشاهد زفاف الامير ، و أخرى تتعلق بطيبة الأردنيين وتشوقهم للفرح ، واحتفائهم بالأمير الشاب ،حدث ذلك في لحظة تحرروا فيها من أي اعتبارات، جغرافية أو سياسية ، وتوجهت مشاعرهم لعنوان واحد ،شكّل جامعا وطنيا ، وهي لحظه قلما تتكرر.
يبقى السؤال الاهم : كيف التقطت إدارات الدولة هذه الرسائل ،وكيف يمكن أن تبني عليها لضمان استدامتها؟ أو كيف يمكن أن تتعلم منها عند تواصلها مع الأردنيين ، او اشتباكها مع قضاياهم وازماتهم ، سواء لاستعادة ثقتهم ،وتصحيح قناعاتهم، او للاستثمار بمشاعرهم العامة تجاه بلدهم ، أو للخروج من دائرة "الخطأ " التي ثبت أن فرصة تجاوزه متاحة ، بأقل ما يمكن من تكلفة ،واكثر ما يمكن من حكمة وإبداع في تصميم الرسائل ،وتقديم الإنجازات أيضا.