الآن، بوسع ( الفتى الشجاع)، أردوغان، أن يمدَّ لسانه لكل الذين راهنوا على ( سقوطه)، فقد خرج الرجل منتصرا بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي توقَّع خصومه أن تكون لحظة للانقضاض عليه، واشهار انكساره.
الذين راهنوا على نهاية اردوغان، وتراجع حزب العدالة و التنمية، خسروا الجولة لثلاثة اسباب، الاول: ان ما حققه أردوغان وحزبه من تحولات في المجالات السياسية و الاقتصادية، ومن ترسيم جديد لعلاقة الشعب التركي مع هويته ومحيطه الإسلامي، ومع العالم ايضا، كانت أعمق وأكبر من كل المحاولات التي جرت لتحريض الشعب التركي ضده، أو لإقناعهم بـ(الانقلاب) عليه، فقد ارتبط أردوغان منذ عقود ( كان رئيسا لبلدية اسطنبول) في ذاكرة الاتراك بـ(الانجازات) التي حققها، وقد جمع هنا شرعية الانجاز وشرعية الصناديق، وهما أصدق بنظرهم من الاتهامات التي ألصقت به.
أما السبب الثاني فهو أن أغلبية الاتراك ادركوا أن (الهجمة) التي واجهها اردوغان، لا تستهدفه فقط، بل تستهدف تركيا ( الجديدة)، صحيح أن الذين بدأوا الهجوم كانوا من المحسوبين عليه (جماعة غولن) ناهيك عن المنشقين عنه وخصومه التقليديين، لكن الصحيح ايضا أن الهدف هو اسقاط ( مشروع) نهضة تركيا وإعادتها الى الوراء، ويبقى السبب الثالث وهو اقتناع المتعاطفين - وحتى المتحفظين على اداء الرئيس - من اوساط ( المتدينين) الاتراك بأن البديل بعد خسارة او سقوط ( اردوغان وحزبه) سيكون الاحزاب العلمانية (حزب الشعب الجمهوري والطاولة السداسية بزعامة كليجدار) وهذا ما وحّد اصوات هؤلاء في الصناديق التي صبت باتجاه اردوغان والعدالة والتنمية.
ما جرى - بالطبع- كان (زلزالا سياسيا )، يتجاوز في دلالاته وتداعياته وارتداداته الانتخابات التشريعية والرئاسية، فهو بالنسبة لأردوغان (لحظة) حاسمة انتظرها لترسيخ (شرعيته) التي تعرضت للتجريح و التشكيك، والاثبات لخصومه بأنهم مجرد (لاعبين) صغار يحتاجون لمزيد من الدروس.
ومثلما كانت الانتخابات بمثابة رد قوي على (النيران) الصديقة التي تعرض لها في الشهور الماضية، فإنها - ايضا- كانت ردا على محاولات اقليمية ودولية للقبض على ( تركيا الجديدة) واجهاض تجربتها ونموذجها (الملهم) لكثيرين في عالمنا العربي والاسلامي، وبالتالي فإن الفوز الذي حققه اردوغان كان بمثابة الرد على النيران غير الصديقة ايضا، خاصة فيما يتعلق بمحاصرة اي تجربة ديموقراطية في عالمنا العربي والاسلامي المحاصر بالاستبداد، وربما تكون المخاوف التي عبرت عنها الصحف الاوروبية والامريكية عشية الانتخابات أحد المؤشرات على محاولة إفشال التجربة التركية من خلال اسقاط اردوغان، وهي ليست مؤشرات فقط بل ( واقع) ملموس تؤكده الاحداث التي جرت في منطقتنا، حيث اصبحت الديموقراطية ممنوعة، وحيث استقلال القرار وسيادة الدول مسألة غير مرحب بها عربيا و دوليا..
إذا دققنا في صورة الحدث الانتخابي، سنجد أن أصداءه الداخلية و الخارجية (دعك من ارتداداته القادمة) تجاوزت المسألة ( الانتخابية) المحلية الى قراءات سياسية لها علاقة بمستقبل تركيا وهويتها ونموذجها ( الاسلامي) ولها علاقة - ايضا- بما يجري في الإقليم من احداث، ويمكن فهم ذلك من خلال ما عبرت عنه الشعوب العربية، من احتفاء بفوز اردوغان وحزبه، وانعكاسات ذلك داخليا، حيث إن تركيا القوية، كما قال اردوغان، ستبدأ مرحلة جديدة من النهوض، بمعنى أن هذه الانتخابات حددت اتجاه الدولة التركية و حسمت خياراتها.
أما انعكاساتها الخارجية فتصب في اتجاهين : احدهما يمنح تركيا مزيدا من الادوار المؤثرة في الاقليم، وهذا يجعل الشعوب العربية التي احبطها ما تعرضت له تحولات، ومن محاولات اجهاض، اكثر تفاؤلا وأملا بتركيا التي حافظت على مشروعها وشرعية الحكم فيها، واتجاه آخر يعكس مخاوف بعض الحكومات والدول من (تمدد) النفوذ التركي ومن (عناد) اردوغان ايضا، خاصة بعد ان توجته الانتخابات زعيما لخمس سنوات قادمة.