يتعمد البعض ( بخبث أحياناً) الخلط بين «الانتماء» للأردن ( دولةً ووطناً) والإحساس به تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، والانحياز لترابه وشعبه والتضحية من أجله بكل شيء، وبين الانخراط في ماكينة «النظام» السياسي والتواصل مع اداراته وأجهزته ومؤسساته، والتماهي في «السيستم» الرسمي.
المقصود بالخلط، هنا، إلصاق تهمة الاستخدام والتوظيف لأي شخص يتعامل مع مؤسسات البلد، وكأنها ليست مؤسساته، او اعتباره «موظفاً» في خدمة سياسيات غير مقبولة، وكأن المطلوب منه ان يستعدي هذه المؤسسات، او ان يظل بعيداً عنها، لكي يبقى في دائرة «الوطنية» : هذه التي أصبحت، للأسف، الوجه الآخر الحصري لدائرة «المعارضة»، وأصبح «أبطالها» هم فقط من من يحظون بشهادة «مناضل سجين»، او معارض دائم، او عضو بحزب او جماعة، اعتقدت أنها «دولة» داخل الدولة.
في بلدنا –للأسف- ثمة من يريد ان نعيش دائما تحت «قلق» الهويّة، وان نتلاوم حول «وهم» من هو الوطني ومن هو غير الوطني، من هو الأردني الأصيل ومن هو الأردني البديل، وثمة من يحاول أن يورطنا في «فخ» التصنيف تبعاً للانتماءات والمواقف من هذه المؤسسة او تلك، او تبعاً للوظيفة والموقع، والاقتراب من السلطة، او الابتعاد عنها.
مقياس هؤلاء لا يعتمد على «الإنجاز» والاستقامة والنظافة والنزاهة، ولا الانحياز للضمير العام، ولا «الخدمة» التي يقدمها الإنسان لبلده، وإنما على أساس حسابات أخرى لها علاقة «بالمكاسب»، او عقدة التاريخ، او الإحساس بالمظلوميّة، او البحث عن نصيب مفقود، اما حسابات «الوطن» الواحد الذي استوعب الجميع واحتضنهم فلا يتذكرها الا الذين عاشوا مراراة هنا ارشدتهم للصواب، او خيبة هنالك علمتهم قيمة ان يكونوا في وطن معافىً من الحروب والصراعات، وان كان مجروحا من بعض التجاوزات والممارسات.
في ميزان الوطنية الصحيحة لا فرق بين من يعارض من اجل الوطن، وبين من يشارك لأجله ايضاً، كما انه لا فرق بين الأردني الذي كان هنا، او الآخر الذي جاء من هنالك، مادام ان للاثنين عنواناً واحداً هو «خدمة الاردن»، وما دام انهما يتشاركان فيه بكل شيء، حلواً كان أم مرّاً، لا يهمّ هنا المواقف السياسية او الانتماءات الحزبية، او ما ترتكبه بعض الحكومات من اخطاء في التوزيع والترقيع، او في الاقصاء والتقريب، او في الابعاد والاسترضاء، وانما المهم ان يكون هاجس الأردني دائما وقبلته ايضاً، هو الوطن الدولة، هذا الذي هو اكبر من الحكومات والجماعات والاشخاص، ومن المواقع والمكاسب ايضاً.
لا يمكن لمعادلة «الوطنية» ان تستقيم في بلدنا، ومرجعيات بعض احزابنا من وراء الحدود، ومواقف بعض «مثقفينا» مرتبطة بالخارج، وسياسيات بعض حكوماتنا قائمة على «افرازات» الثقة بدل الكفاءة، وادبيات جماعاتنا موصولة بحبال «الأممية»، وسجالاتها موزوعة على «أوهام» المواطنة التي لم نحسم الاجابة عليها بعد، لا يمكن في غياب «روح» الوطن الواحد، التي يجب ان تسري في ابداننا، ان نبني وان نتقدم وأن نخرج من أزماتنا.
سامحهم الله، هؤلاء الذين أوهموننا بأن «الوطني» الفصيح والنظيف والصالح هو من «يعتكف» في بيته، او في مقاطعته، او يتحرر من تهمة «التعامل» مع مؤسسات بلده، اما الآخرون فهم «عملاء» او موظفون او مشكوك في وطنيتهم، سامحهم الله لانهم اخطأوا ثلاث مرات: مرّة حين حرموا بلدنا من كفاءات ابنائه المخلصين، وتركوه مسرحا لموظفي «ابناء ليلة القدر»، ومرّة اخرى حين اختزلوا «الوطنية» في دائرة المزايدين او المتفرجين، ووضعوها في سجن نصّبوا انفسهم حراساً عليه، ولم يسمحوا لها بالخروج لكي تتنفس وترى النور..
ومرّة ثالثة حيث تصوروا بأنهم وحدهم من يمنح «صكوك» الوطنية، ومن يزكي اصحابها، ويحرم الآخرين منها، وكل ذلك وفق اعتبارات مغشوشة، لها علاقة بالمكاسب لا بالمبادئ، وبالعقوق بالبلد الذي بادرهم التحية، ومدّ لهم يداً فلم يردوا عليه التحية بمثلها، وآثروا ان لا يصافحوه بلا أي عذر أو سبب.