في ندوة بمعهد «بيكر للسياسة العامة» عقِدت الأربعاء/ 12نيسان الجاري, «إعترفَ» ويليام بيرنز/مدير وكالة المخابرات الأميركية/سي آي إيه, وعلى نحو غير مسبوق, أن نفوذ الولايات المُتحدة «يشهد فترة من التغيير والتحوّل", عازياً ذلك إلى «إتّساع المُنافسة مع الصين وروسيا».. مُستطرِداً في عبارة أكثر وضوحاً «إن وضع بلاده على رأس الطاولة غير مضمون». وان كان زعمَ أن واشنطن «لا تزال لها أفضلية للتغلّب على منافسينا، إلاّ أنها - أضاف كاشفاً - لم تعد الفتى الكبير في الكتلة الجيوسياسية».
وإذ استعاد بيرنز السردية/ الأسطوانة الأميركية المعروفة, التي تُحمّل الآخرين مسؤولية ما يحدث في العالم، عبر التأشير على «أطماعهم ورفضهم الإنتظام في طابور الدول الخاضعة أو الراضية بالهيمنة الأميركية, مُنْكِراً حق هؤلاء في التنمية والإستقلالية والصعود, ورفض عالم ما بعد إنتهاء الحرب الباردة القائم قسراً على الأحادية القطبية, ومزاعم أن القرن الـ «21» هو قرن أميركي بامتياز, وأن لا مستقبل لأي فكر أو نظرية أو اقتصاد, سوى الرأسمالية بنسختها الليبرالية المُتوحشة واقتصاد السوق والعولمة, فإنه ذهبَ إلى تحميل الصين وروس?ا بل سمّى واتّهمَ الرئيس الصيني/شي جين بينغ, والروسي/بوتين, بأن الصين في عهد «شي» لا تكتفي بـ «الجلوس» على الطاولة فقط, بل - أضافَ - أنها تريد «إدارة الطاولة»، فيما اتّهم روسيا تحت قيادة «بوتين» تُريد أن «تقلب الطاولة بالكامل».
هنا يبرز بوضوح مفهوم «الهيمنة» في القاموس الأميركي الجيوسياسي, ومُصطلح النظام الدولي"القائم على القواعد» الذي دأبت الدعاية الأميركية على الترويج له والسعي لتكريسه في المشهد الدولي. وبخاصة عبر عسكرة العلاقات الدولية وشن الحروب وتشويه سمعة القادة والدول التي ترفض أن تضع «دولة واحدة» مهما بلغت قوتها وحجم اقتصادها وقدرات ترسانتها العسكرية, أن تضع وتفرض قواعد هذا النظام وجدول أعمال المعمورة, وأن تحتكر لنفسها تحديد مفاهيم حقوق الإنسان وحرية المرأة والدفاع عن حقوق الأقليات وغيرها من العناوين والملفات المُفبركة ذا? الأهداف السياسية, تحت طائلة الغزو والحصار والعقوبات والنبذ وتشويه السمعة والحطّ من قيمة الدول وقادتها وتسخيف قِيمِ وثقافة وتاريخ شعوبها.
وكما هو مُتوقع كانت أوكرانيا جزءاً رئيساً في ندوة المستر بيرنز, ولم يكن صادماً أو مُفاجئاً أن يصف المسؤول الأميركي الرفيع قيام روسيا بعمليتها العسكرية الخاصّة بـ«عدوان وحشي», وتجاهلِه رفض إدارة بايدن, كما ذراع واشنطن العسكري الموصوف «حلف الناتو» والاتحاد الأوروبي, تقديم أي ضمانات أمنية لروسيا, خاصة مع علمه الأكيد أن ألمانيا/ميركل وفرنسا/هولاند حالتا دون تنفيذ اتفاقيتيّ «مينسك» بهدف منح واشنطن والناتو الفرصة لتسليح وتدريب وتقوية الجيش الأُوكراني، قال بيرنز: إن بوتين (المخطئ بشدّة «وفق وصفه» في افتراضاته, بس?ب اعتقاده أن أوكرانيا ضعيفة ومُنقسمة وليست دولة حقيقية)... هو الآن - أي بوتين في نظره - «في وضع غير مريح وغير معتاد, بما يُمكِّنه من الوقوف على قدمه, - مُضيفاً- أن بوتين لا يزال مُقتنعاً بأن أوكرانيا تهُمّه أكثر مما تهُمنا, وأعتقد - استطردَ بيرنز - أنه مُخطئ في هذا الرهان، كما كان مُخطئاً في افتراضاته قبل حربِه».
هنا أيضاً «يَبّرعُ» المستر بيرنز في التعبير بوضوح عن المفهوم الأميركي للقانون الدولي وخصوصاً في ما يتعلّق بالأمن والسلم الدوليين, وما بين الدول من اتفاقيات ثنائية وحسن الجوار والمصالح المشروعة، ناهيك عن «الانقلابات» على الأنظمة والقيادات المُنتخبة والتي تسارع واشنطن إلى احتضانها (إذ لم تكنْ هي المُخطط والمُوجّه والمُمول لها أصلاً), كما حدث في أوكرانيا ذاتها بعد ما سُمّي «ثورة الميدان» ضد نظام الرئيس المُنتَخب يانوكوفتش عام 2014, فيما هي تواصل إسقاط قادة ومُحاصرة وفرض عقوبات على دول وأنظمة تتهمها بالاستبداد?والديكتاتورية, فقط لأنها ترفض هيمنتها ولا تعترف بـ«الاستثنائية الأميركية».
** إستدراك:
رغم الحملة الشعواء التي شنَّها بيرنزعلى الرئيس بوتين وروسيا، إلا أنَّه اعتبر «الصين» أكبر أولوية لوكالة الاستخبارات المركزية على المدى الطويل. مُحذَّراً من أنَّ «إدارة علاقة حاسمة وعِدائية بشكل مُتزايد مع الصين, ستكون أهم اختبار لصانعي السياسة الأميركيين لعقود مقبلة».