كان «أبو صخر»، رحمه الله، مثقّفاً شمولياً، يجمعُ بين الفن، والأدبِ، والسياسة، والإدارة الذكية.. وقد عرفتُه من خلال كتابته للقصة القصيرة التي كان ينشرها في مجلة الأفق الجديد.. الصادرة عن دار المنار المقدسيّة، في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وقد سدّت حينها، فَراغاً كبيراً في الحياة الثقافية.. وصنعت نجوماً من المبدعين، من بينهم عبدالرحيم عمر، تيسير الشبول، فايز صياغ، خليل السواحري، فخري قعوار، يحيى يخلف، وغيرهم..
وعندما اختاره دولة الرئيس الشهيد وصفي التل ليتولّى موقع المدير العام للإذاعة (وهو في الثلاثين من عمره، أو ربّما أكثر من ذلك بقليل) شغله الإعلام، والسياسة، والكتابة الأدبية.. التي استبدلها بثلاثة مسارات.. سجّل فيها تميّزاً مدهشاً، وهي البرامج السياسية والإخبارية، وكذلك «الأغنية الوطنية» التي كان يعتبرها سلاحاً له تأثيرٌ أكبر من التعليق السياسي، والأخبار، والكلام المباشر المكرور، والمملّ، والثقيل على أسماع المتلقّين..
وذلك ما كان بدأه الشهيد وصفي، وصلاح أبو زيد.. تأسيساً لنظرية «هويّة الدولة»، أو البصمة الأردنية التي تميّز إذاعتنا عن غيرها من الإذاعات.. ولحسن الحظ أنه كانت لدينا، في تلك الأيام فرقة موسيقيّة مشهود لها بأنها من أهم الفرق العربية، تضم ملحنين، ومطربين، وكورالاً في غاية الجمال، وكان في الإذاعة أيضاً، شعراء كبار، ساهموا في تقديم الكثير الكثير من الأغاني، والأناشيد الوطنية الرائعة، مما سهّل على مدير الإذاعة الشاب تلك المهمة التي أكمل بها رسالة من سبقوه (أعني وصفي التل، وصلاح أبو زيد على وجه التحديد).. ولأنه أثير إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية، وهي الأكثر استماعاً في الوطن العربي.. (بحسب ما تقوله أو قالته مراكز الاستطلاع العالمية الموثوقة)، بدليل الإعلانات التي كان يتأتى منها دخل مالي كبير جداً، تعرفه ما كان يسمى (الدائرة التجارية).. قبل أن تنتقل إلى التلفزيون..
ولعلي أختصر الحكاية بواحد من الأمثلة الكثيرة، عن مدى الاهتمام «بسلاح الأغنية»، قصة النشيد، الذي حضر تسجيله، قبل أن يُبث، الدولة كلها.. حين دعا «أبو صخر» الحكومة: رئيساً ووزراء» وأعياناً ونواباً، وقائد الجيش وغيرهم من كبار المسؤولين، للاستماع إلى «نشيد» الضفتان شقيقتان»، الذي ألّف ولحّن وأُنشد، ليكون نشيد «الاتحاد الوطني الأردني.. وليصبح ذلك المشهد سُنّةً حميدة تعني أن «الأغنية الوطنية» هي عمل جماعي يهم الدولة كُلّها، وأن «الأثير الأردني» لا ينبغي أن يُبثَّ عليه إلاّ ما يليق به، وأن الإعلام –بشكل عام- وكذلك الثقافة، والفن، والإبداع ليس في آخرِ قائمة الاهتمام، بل هو -في ذلك الزّمن الجميل- على رأس تلك القائمة..
ولدي الكثير الذي لا بُدَّ أن يُقال.. في ذلك الشأن، وسنعودُ من بعدُ، إلى التفاصيل!!
وما قلناهُ، في ذكرى رحيل «أبي صخر»، هو مجرّدُ غيض من فيض.. ورحم الله مروان دودين، وكل أحبتنا الراحلين!!